في الوقت الذي يحاول فيه الإنسان بناء محطة فضائية على سطح القمر، وتتواتر الأخبار عن اختراقات جديدة في مجال أبحاث الخلايا الجذعية، يتعرض أكثر من 12 مليون شخص سنوياً حول العالم لعضات الكلاب وللدغات الثعابين والعقارب، دون أن يتوفر لهم القدر الكافي من التطعيمات والأمصال الضرورية لإنقاذ حياتهم. هذه المشكلة الصحية الدولية الخطيرة، تحاول منظمة الصحة العالمية التعامل معها، من خلال عدة إجراءات وتدابير، طرحت يوم أمس الأربعاء، ضمن اجتماع للخبراء عقد في مقر المنظمة بمدينة "جنيف". وقبل استعراض تلك الإجراءات والتدابير وتأثيرها المتوقع، يجب أن نتوقف قليلاً عند حجم المشكلة، كي ندرك مدى فداحة ثمنها على الصعيدين الإنساني والاقتصادي. بداية، يجب تقسيم هذه المشكلة إلى قسمين: الأول يختص بعضات الكلاب وما شابهها من حيوانات، وهي العضات التي تحمل خطر الإصابة بمرض السعار أو داء "الكلب" (Rabies). أما القسم الثاني فيختص بلدغات الثعابين والعقارب، وما شابهها من حيوانات سامة، وهي اللدغات التي تحمل معها خطر الموت السريع، أو الحياة بمضاعفات وإعاقات عصبية وحركية خطيرة. بالنسبة للسُّعار، فهو مرض قديم قدم التاريخ نفسه، كتب عنه المؤرخون ووصفه الأطباء الأوائل منذ عصور غابرة. ففيما خلفته الحضارات القديمة، مثل الصين والهند وروما واليونان وحضارة ما بين النهرين... نجد وصفاً دقيقاً لأعراض مرض السعار كما عرفته تلك العصور، وهي الأعراض التي دائماً ما أثارت الرعب في قلوب العامة، وحيرت الأطباء لقرون طويلة. حيث لم تتح درجة المعرفة للأطباء حينها، الكثير من الاختيارات على صعيد طرق العلاج والوقاية، والتي كان أغلبها طرقاً خرافية اعتباطية. وبتطور الطب الحديث، واكتشاف نوع من العلاج الوقائي، اعتقد الكثيرون أن السعار أصبح من الأمراض النادرة، المذكورة فقط في كتب التاريخ الطبي. ولكن في عام 2004، قامت منظمة الصحة العالمية بتكليف علمائها بإعادة تقييم مدى انتشار السعار على المستوى الدولي. وللأسف، أظهر هذا التقييم أن عدد الوفيات الناتجة عن السعار حول العالم، يزيد على 55 ألف وفاة سنوياً، ويحدث معظمها في المناطق الريفية من آسيا وأفريقيا. ففي آسيا وحدها، يلقى 31 ألف شخص حتفهم سنوياً بسبب السعار. أما في أفريقيا فيقتل السعار نحو 24 ألف شخص كل عام. وبخلاف عشرات الآلاف من الوفيات، يتسبب السعار في خضوع أكثر من عشرة ملايين شخص للعلاج، من جراء تعرضهم لهجوم حيوانات مصابة بالمرض. وعلى عكس السعار، لا توجد إحصائيات دقيقة عن أعداد من يتعرضون للدغات الثعابين والعقارب وغيرها من الحيوانات السامة، بسبب أن القوانين لا تحتم على أفراد المجتمع الطبي إبلاغ السلطات الصحية عن وقوع مثل تلك الحوادث. وإن كانت بعض التقديرات الجزافية، تقدر حدوث أكثر من 2.5 مليون عضة ثعبان سنوياً حول العالم، تنتج عنها 125 ألف وفاة. وحتى إذا لم يلقَ الشخص حتفه بسبب لدغة الثعبان السام، فإنه يظل عرضة لخطر الإصابة بتلف عصبي شديد من جراء السم، مما يجعله معاقاً عصبياً وحركياً مدى الحياة. وأحياناً ما تتسبب اللدغة وما ينتج عنها من تلوث وجرح، في حدوث "غرغرينا" في مكان الإصابة، تنتهي ببتر الطرف المصاب. وبخلاف الثعابين، يمكننا أن نضيف إلى هذه المآسي، أعداداً مماثلة من ضحايا حوادث التعرض للدغات العقارب والحيوانات السامة الأخرى. وإذا ما نظرنا إلى الشرق الأوسط بالتحديد، فسنجد أن سكانه يتعرضون لأكثر من 20 ألف لدغة ثعبان سنوياً، 15 ألفاً منها من ثعابين سامة، ويمكننا هنا أيضاً أن نضيف عدداً مماثلا، من ضحايا لدغات العقارب والحيوانات الأخرى السامة. ولحسن الحظ، يتوفر علاج فعال ضد كل من عضات الكلاب ولدغات الثعابين، في شكل أنواع مختلفة من الأمصال العلاجية (Therapeutic Sera) مكونة من الأجسام المضادة (Antibodies). ولكن لسوء الحظ، يظهر الواقع أن هذه الأدوية الأساسية، لا تتوفر في الدول التي هي في أشد الحاجة إليها، أو أنها تتوفر ولكن بأسعار خارج قدرة معظم الضحايا. هذا الواقع المؤسف، هو نتيجة الانخفاض المستمر في حجم الإنتاج العالمي من الأمصال العلاجية، بسبب تراجع ربحية الشركات المصنعة، وعدم القدرة على تقدير الاحتياجات الدولية بدقة، بالإضافة إلى تهالك شبكات التوزيع في دول العالم الثالث. وحتى في الدول الفقيرة التي تتوفر فيها تلك الأمصال بكميات محدودة، نجد أنها إما خارج نطاق القدرة الشرائية للكثيرين، أو أنها من إنتاج محلي لا يتطابق مع المواصفات الدولية الضرورية لتحقيق الفعالية المطلوبة لإنقاذ حياة الضحايا. ولمواجهة هذه المشكلة، وضعت منظمة الصحة العالمية خطة خمسية، تهدف إلى مساعدة السلطات المحلية على تقدير احتياجاتها السنوية بشكل صحيح، مع زيادة إنتاج الأمصال العلاجية محلياً في دول العالم الثالث، بالترافق مع تطبيق معايير الجودة العالمية لضمان فعالية المنتج المحلي. وتقدر المنظمة أن تنفيذ خطتها الرامية إلى توفير الأمصال العلاجية بشكل أكبر وأوسع حول العالم، سيتطلب إنفاق عشرة ملايين دولار فقط. وهو مبلغ زهيد، إذا ما وضعنا في الاعتبار أن السعار وحده يحتل المرتبة العاشرة على قائمة الأمراض المعدية الأكثر فتكاً بأفراد الجنس البشري، مسبباً 55 ألف وفاة سنوياً. وعلى الرغم من أن السعار يقتل بنسبة 100% إذا لم يتم علاجه، إلا أنه يمكن الشفاء منه بنسبة 100% أيضاً، إذا ما تم علاج الضحية بالمصل المناسب. د. أكمل عبد الحكيم