وجدت نفسي في الآونة الأخيرة متورطا في جدال مع الرئيس الأسبق جيمي كارتر حول الطريقة التي استخدم بها خريطتين في كتابه المعنون: "فلسطين... السلام وليس الحرب" والتي تختلف عن تلك التي استخدمت أنا بها الخرائط في كتابي المعنون "السلام المفقود". فرغم أن البعض قد انتقد ما بدا كأنه سوء استخدام لتلك الخرائط في غير موضعها في كتاب كارتر، فالحقيقة هي أن اهتمامي كان منصباً على شيء آخر، ليس المصدر الذي جاءت منه تلك الخرائط- وقد قال كارتر إنه استخدم أطلساً تمت طباعته في تاريخ لاحق لظهور كتابي- بقدر ما كان منصباً على الطريقة التي سُميت بها تلك الخرائط. وحسب رأيي فإن كارتر أساء في كتابه تفسير المقترحات المقدمة من قبل الرئيس السابق بيل كلينتون عام 2000، وهو عندما يفعل ذلك فإنه يقوض بشكل خطر كل الجهود الرامية لتحقيق السلام في المنطقة. في كتابه يضع كارتر جنباً إلى جنب خريطتين أطلق على إحداهما مسمى" تفسير الفلسطينيين لمقترح كلينتون عام 2000"، وتحت الأخرى مسمى" التفسير الإسرائيلي لمقترح كلينتون عام 2000". المشكلة هنا تكمن في أن" التفسير الفلسطيني" مأخوذ من خريطة إسرائيلية قُدمت خلال اجتماع قمة "كامب ديفيد" في يوليو 2000، بينما "التفسير الإسرائيلي" هو عرض تقريبي لما اقترحه كلينتون لاحقاً في ديسمبر من نفس العام. ودون أن يعرف القارئ هاتين الحقيقتين، فلن يكون أمامه سوى التوصل لخلاصة مؤداها أن مقترح كلينتون كان غامضاً أو ملتبساً وغير منصف لدرجة جعلت رفض الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات تلك المقترحات، أمراً مبرراً. وهذا غير صحيح على الإطلاق. فالحقيقة هي أن الرئيس كلينتون قد قدم مقترحين مختلفين في توقيتين مختلفين. أحد هذين المقترحين تم تقديمه في شهر يوليو، وكان عبارة عن مقترح جزئي حول الأرض والسيطرة على القدس. وبعد ذلك التاريخ بخمسة شهور، وبناء على طلب من "إيهود باراك" رئيس الوزراء الإسرائيلي حينئذ والزعيم عرفات، قدم كلينتون مقترحاً شاملاً حول الحدود والقدس واللاجئين الفلسطينيين والأمن، وهو المقترح الذي أصبح يشار إليه فيما بعد بـ"أفكار كلينتون". يمكن القول في عبارات مبسطة إن مقترحات كلينتون كان يمكن أن تؤدي في النهاية إلى إنشاء دولة فلسطينية على كل أراضي غزة وعلى 97% من أراضي الضفة الغربية، على أن يتم الانتقال بينهما إما بقطار معلق أو بطريق خارجي. أما وضع القدس فكان من المفترض أن يتحدد على أساس مبدأ مؤداه أنه ما هو يهودي حالياً في تلك المدينة سيكون إسرائيلياً وما هو عربي حالياً في المدينة سيكون فلسطينياً... وهو ما كان يعني أن القدس اليهودية- الشرقية والغربية – ستكون متحدة، في حين أن القدس العربية الشرقية ستصبح عاصمة الدولة الفلسطينية. وكان من المفترض ألا يكون لدى الدولة الفلسطينية جيش وإنما مجرد قوات أمن داخلي، على أن يحل وجود عسكري دولي تقوده الولايات المتحدة محل ذلك الجيش، للحيلولة دون التهريب وتسلل المهربين. وكان من المقرر حسب هذا المقترح أن يُمنح اللاجئون الفلسطينيون حق العودة إلى الدولة الفلسطينية الناشئة وليس إلى إسرائيل، على أن يتم تخصيص مبلغ قدره 30 مليار دولار لتعويض اللاجئين الفلسطينيين الذين يختارون التخلي عن حق العودة إلى الدولة الفلسطينية. وعندما قررت كتابة قصة ما حدث في تلك المحادثات، كلفت جهة معينة بإعداد خرائط لتبيان ماذا كانت تعنيه تلك المقترحات بالنسبة للدولة الفلسطينية المتوقعة. ولو كانت مقترحات كلينتون في ديسمبر 2000 إسرائيلية أو فلسطينية، وكان دوري يقتصر على تفسيرها، لكان هناك من تصدى لتفسيراتي، ولكن تلك الأفكار لم تكن فلسطينية ولا إسرائيلية وإنما كانت أفكاراً أميركية وكنت أنا مؤلفها الرئيسي... وهو ما يعني أني كنت أعرف ماذا كانت تعني تلك الأفكار كما أن الأطراف المعنية كانت تعرف ذلك أيضاً. بيد أنه ليس هناك من شك في أن مناقشة ما إذا كانت تلك المقترحات كانت ستؤدي إلى تسوية نهائية للنزاع تعد أمراً مشروعاً ولا غبار عليه... أما غير المشروع فهو أن تتم إعادة كتابة التاريخ، وإساءة تفسير طبيعة أفكار كلينتون التي قدمها في ذلك الوقت. ما حدث في الواقع هو أنه منذ أن انهارت تلك المحادثات، ظهرت فكرة مغلوطة تسعى إلى الدفاع عن رفض عرفات لأفكار كلينتون من خلال الإيحاء بأن تلك الأفكار لم تكن حقيقية أو أنها كانت غامضة أو ملتبسة للغاية، وأن الفلسطينيين لو كانوا قد وافقوا عليها فإن ما كانوا سيحصلون عليه، يقل كثيراً عما كان يتم الإعلان عنه. ويلزم التذكير في هذا السياق أن عرفات نفسه حاول الدفاع عن رفضه لمقترحات كلينتون بعد مرور وقت عليها؛ بالقول إن ما قدِّم إليه لم يصل حتى إلى 90% من أراضي الضفة الغربية، كما أنه لم يشمل أي جزء من القدس الشرقية... ولكن ذلك كان قولاً مغلوطاً وليس حقيقةً. لماذا يعتبر وضع الأمور في نصابها الصحيح أمراً مهماً؟ للإجابة على هذا السؤال يتعين القول إنه ما من شيء ساهم في إدامة الصراع بين العرب والإسرائيليين أكثر من الأساطير والأوهام السائدة على الجانبين، ومنها على سبيل المثال تلك المتعلقة بالطرف الذي تسبب في نشوء الصراع في الأصل، ومنها أيضاً ما يتعلق بلب الصراع ذاته. وهذه الأساطير أصبح لها بمرور الوقت وجود مستقل، وأصبحت تشكل المدركات، وتسمح لكل طرف بأن يلوم الطرف الآخر دون أن يواجه أخطاءه هو. وأرى أنه طالما استمرت تلك الأساطير، فإن أياً من الطرفين لن يشغل نفسه كثيراً بمواجهة الحقيقة. غير أن السلام لا يمكن أبداً أن ينبني على تلك الأساطير، ولن يأتي إلا إذا ما قبِلَ الطرفان بالواقع وعملا على تكييف نفسيهما بناء عليه. أما إدامة الأساطير من أجل تبرير أسباب رفض عرفات، فلن يخدم مصالح الفلسطينيين كما لن يخدم قضية السلام. سأمضي خطوة أبعد من ذلك وأقول إنه إذا ما كانت أفكار كلينتون قد جسدت التبادلات الأساسية التي تدعو الحاجة إليها في أي صفقة سلام، فإنه من الطبيعي أن يتم فهمها على ما كانت عليه بالفعل، لا أن تتم إساءة تقديمها. وينطبق هذا بشكل خاص على لحظتنا الحالية التي تبدو فيها إدارة جورج بوش لأول مرة وكأنها تفكر في القيام بمجهود جدي للتعامل مع المسائل الجوهرية لهذا الصراع. بالطبع قد يسال أحدهم ما إذا كان من المناسب القيام بمعالجة المسائل الجوهرية لهذا الصراع، في وقت يجد فيه الفلسطينيون أنفسهم محاصرين داخل حالة من الصراع الداخلي الذي يعيق حركتهم... وفي وقت يفتقد الجمهور الإسرائيلي الثقة في حكومته؟ وهل يستطيع الزعماء الضعفاء على الجانبين، أن ينجزوا تسويات بشأن المسائل التي تتعلق بلب الصراع؟ وهل يستطيع الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن يساوم على حق العودة وأن يخبر شعبه بأن اللاجئين لن يعودوا إلى إسرائيل؟ وهل يستطيع رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت أن يخبر شعبه أن الديموغرافيا والواقعية تعنيان أن القدس الشرقية ستكون خاضعة للسيادة الفلسطينية وليست الإسرائيلية؟ إن التنازلات المتبادلة تتطلب الوفاء بالمتطلبات الإسرائيلية المتعلقة بالأمن واللاجئين من ناحية، والوفاء بالمتطلبات الفلسطينية المتعلقة بالأرض وإقامة العاصمة في القدس الشرقية من ناحية أخرى. لكن الحصول على تلك التنازلات المتبادلة لن يتم بمجرد المطالبة بها وإنما يستلزم الأمر توفير مناخ يمكن لكل طرف فيه أن يؤمن بأن الطرف الآخر يمكن أن يعمل من أجل السلام، وأنه يرغب في إقناع شعبه بالتكيف على القبول بالتسويات والتنازلات الصعبة التي سيتم تقديمها من أجل ذلك. وأزيد على ذلك قولي بأنه طالما لم يتم التخلي عن الأساطير ووضعها جانباً، وطالما أن الجانبين لا يؤمنان بتقديم تنازلات متبادلة بشأن المسائل الجوهرية، فإن السلام سيظل على ما هو عليه الآن؛ مجرد احتمال معلق في الأفق. وإذا ما كانت هناك دروس نستطيع استخلاصها من بطون التاريخ فأهم تلك الدروس هو أن السلام كي ينجح لا بد أن يكون قائماً على الحقائق وليس على الأساطير. دينس روس المبعوث الأميركي للشرق الأوسط في إدارة بيل كلينتون، والاستشاري الحالي في "معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"