صدام حسين، أول حاكم عربي على مر التاريخ الإسلامي، يحاكمه شعبه، فتصدر "المحكمة الجنائية العليا" العراقية، حكمها بالإعدام (5/11/2006) ويتأيد بمصادقة "محكمة التمييز" (26/12/2006)، ويتم تنفيذ الحكم صبيحة عيد الأضحى المبارك. "صدام" هو الحاكم العربي "الوحيد"- ولعله الأخير- الذي يحكم عليه، وهو "الوحيد" أيضاً الذي يعدم يوم فرحة المسلمين. ولكن يجب ألا ننسى أنه حاكم "استثنائي" في أمور كثيرة، فهو "الوحيد" الذي شنّ حربين عدوانيتين، وهو "الوحيد" الذي استخدم الكيميائي ضد شعبه، وهو "الوحيد" الذي ارتبط اسمه بالمقابر الجماعية، وهو "الوحيد" الذي قتل الأئمة والمراجع الدينية، وهو "الوحيد" الذي تسبب في قتل أكبر عدد من البشر الأبرياء، وهو "الوحيد" الذي حكم شعبه بالحديد والنار ثلاثين سنة وفتك بزملائه، وهو "الوحيد" الذي نقض المواثيق التي وقّعها. وأخيراً هو "الوحيد" الذي بلغت به الجرأة ليكتب المصحف بدمه! استثنائية "الحدث" فرع من استثنائية "الشخص"، وهي أيضاً آتية من تناقضها مع ثقافة سياسية سائدة تكرّس مبدأ "الطاعة" للحاكم وإن ظلم وجار واستبد وأهدر الثروات وأفسد في الأرض، فسلطان غشوم خير من فتنة قد تدوم، وأطع الحاكم ولو جلد ظهرك وأخذ مالك! ومفاجأة "الحدث" بل وفاجعته، في أنها- أولاً- حصلت في يوم غير متوقع مما استفزّ المشاعر وأثار كثيراً من ردود الفعل المستنكرة. وثانياً أنها جاءت على خلاف التوقعات التي راهنت على تخفيف الحكم كورقة تفاوضية مهمة مع العشائر السنية المطالبة بالإفراج عن صدام مقابل دخولهم العملية السياسية، ونبذهم تأييد أعمال العنف (المقاومة) واستجابة لضغوط الاتحاد الأوروبي ومنظمات حقوق الإنسان الساعية لإلغاء عقوبة الإعدام. ولكن الحكومة العراقية كانت لها حسابات أخرى، خيّبت كل التوقعات، إذ عمدت إلى تنفيذ الحكم صبيحة العيد، كهدية أو "عيدية" كبيرة تقدمها لملايين المفجوعين والمنكوبين والمتضررين من أهالي وأقرباء الضحايا الذين سقطوا على يد النظام السابق، متجاهلة كل الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية وحتى نصيحة السفارة الأميركية بالتأجيل. تقول مريم الريس، المستشارة القانونية لرئيس الوزراء العراقي: "إن رئيس الوزراء كان قد قرّر أن بدء العام الجديد، وصدام ميت، يفوق كل الاعتبارات، بما في ذلك نصيحة السفارة الأميركية". ومما زاد من تأجيج المشاعر المستنكرة "الإخراج" السيئ للحدث الذي وصفه البعض بـ"الغباء السياسي" و"العقلية الطائفية المريضة" و"الجريمة". وإني إذ أتفهم مسوّغات الأكثرية التي انتقدت عملية "التوقيت" و"الإخراج" واستهجنتها، وأراها خطأ مزدوجاً، (إنسانياً) لعدم مراعاة المشاعر في يوم عيد، و(سياسياً) لأنه يفاقم عدم الاستقرار ويعوق المصالحة، وقد ترتبت عليها ثلاث نتائج سيئة: 1- الإنسياق الإعلامي وراء "التفسير الطائفي" للحدث وتضخيمه وإعطائه أبعاداً مذهبية استفزازية، مع أن "صدام" ليس رمزاً للطائفة السنية، فهو لا يمثل إلا نفسه المستبدة، بل هو المغذّي الأكبر للطائفية في العراق على امتداد (30) عاماً، وكان ضحاياه من كل طائفة ومذهب، كما أن هؤلاء الذين رقصوا حول الجثة "تشفياً" لا يمثلون عموم الشيعة، ولأننا-جميعاً- شعوباً وحكومات، طائفيون حتى النخاع، فالأقليات المذهبية لا زالت مهمشة في مجتمعاتنا، ولا زلنا نمارس تمييزاً سياسياً واجتماعياً ضدها، في المناهج التعليمية، وفي التشريعات، وفي الوظائف القيادية، فنحن نتحمل- كأكثرية سنية عربية- جانباً من المسؤولية عن تفشي ظاهرة الطائفية التي نستنكرها الآن. 2- الخلط غير المبرر، بين إدانة (التوقيت والتنفيذ) والطعن في شرعية "المحكمة" و"المحاكمة"، لأنها وقعت في ظل "المحتل" ولم تتوافر فيها ضمانات العدالة. بالنسبة للتوقيت فلا خلاف في انتقاده، ولكن المحاكمة توافرت فيها كل ضمانات العدالة، صحيح أنها لم تصل إلى مستوى المحاكمات الدولية، ولكنها- في تصوري- الأكثر عدالة من كل المحاكمات العربية للخصوم السياسيين على امتداد الساحة العربية، طوال نصف قرن وبخاصة تلك المحاكمات الاستثنائية التي أبتدعتها النظم الثورية. لقد كان صدام في سجن خمسة نجوم؛ توافرت فيه كل أسباب الراحة والحماية، وكان في خدمته جيش من المحامين، وكانت جلسات المحاكمة التي بدأت في (19/5/2005) منقولة على الهواء وعلى امتداد (42) جلسة، حضرها عشرات الشهود والمراقبين، والمحكمة عراقية، قضاتها عراقيون، تشكلت وفق القانون الصادر من الجمعية الوطنية، ونص عليها الدستور والقانون الذي رسم الإجراءات الجزائية، قانون عراقي كان معمولاً به في عهد صدام، وقرارات الإدانة استندت إلى قانون العقوبات العراقي، والمحكمة طبقت صحيح القانون. فكل ما يقال عن عدم شرعيتها لا أساس له، وكونها في ظل "المحتل" أكثر ضمانة للعدل، لأن "المحتل" حريص على سمعته الدولية، ولأنه لو تُرك صدام لحظة لشعبه لمزقوه شر ممزق ولسحلوه وصلبوه ولم يُعرف له مدفن كما فعل هو بضحاياه، ولكن لأنه في حماية "المحتل" ضَمِن محاكمة عادلة ومزاراً يقصده أتباعه للنواح والترحّم. فلولا "المحتل" الذي يشتمونه- ليلاً نهاراً- ما أمكن إجراء محاكمة، ولفُعل بصدام ما فعله الحجاج بابن الزبير، وما فعله الوالي الأموي الذي ذبح "الجعد بن درهم" كالنعاج يوم عيد الأضحى وقال للمسلمين: "ضحّوا فإني مضحٍ بالجعد"! المنطق السياسي للسلطة العربية لا يعرف قدسية لا للزمان ولا للمكان عند البطش بالخصوم، لقد ضرب الأمويون الكعبة بالمنجنيق، واستباحوا المدينة المنورة، وهو ما لم يجرؤ عليه عرب الجاهلية، كما يقول مفكرنا الدكتور محمد جابر الأنصاري. 3- التوظيف اللاعقلاني لمشاعر الجماهير، فلأن الإعدام تم في عيد أصبح الدكتاتور "بطلاً قومياً" و"مجاهداً"... وهكذا تُبتذل المفاهيم السياسية السامية منذ أن أصبح الزرقاوي "شهيداً" والمفجرون أنفسهم "شهداء"، ووصل الاستخفاف بالعقول أن رئيس حكومة عربية رأى فيه "إهانة وإذلالاً" للعرب والمسلمين! لا أعرف ما وجه الإهانة في الاقتصاص ممن أجرم في حق شعبه وجيرانه؟! "الإهانة"- حقاً- هي في صمود الطغيان الذي ينتهك الحرمات ويدوس الكرامات ويبدد الثروات ويتحكم في المقدرات. ويحق لنا أن نتساءل: ماذا أصاب العقل العربي؟! هل صدمة "التوقيت" زلزلت كيانه وأفقدته الرشد؟! وإذا كان "طارق الحميد" اعتبر "التوقيت" جريمة، فإن تحويل "صدام" إلى بطل شهيد هو الجريمة الأعظم! إن الإخراج البشع لإعدام صدام يجب ألا ينسينا صورة الدكتاتور الأبشع. وفي النهاية: إذ أحترم حزن عائلة وعشيرة صدام وأتفهم مجالس العزاء التي أقامها أنصاره في العديد من الدول العربية، فليس مفهوماً أو جديراً بالاحترام مجلس العزاء الذي أقامته "لجنة الحريات" بنقابة المحامين في مصر! صدام صفحة سوداء في التاريخ وقد انطوت، وهو لا يستحق أن نحزن عليه.