يكاد صدام حسين يكون قد عاش حياته كلها في معارك متصلة: من الاستيلاء على السلطة، إلى مواجهة التمرد الكردي، إلى التصدي لسياسة التسوية السلمية مع إسرائيل، إلى الحرب مع إيران، إلى غزو الكويت، إلى التعامل مع الحصار الدولي، ثم التهديدات الأميركية، وصولاً إلى العدوان والاحتلال الذي أسقط نظامه في عام 2003. بعض هذه المعارك كان جزءاً من موجة التغيير العامة التي شهدتها المنطقة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والتي سعت في خلالها قوى اجتماعية وسياسية جديدة للاستيلاء على السلطة في أقطار الوطن العربي، ونجح العديد منها في ذلك، وأسس نظماً للحكم رفعت شعارات استقلالية وسعت إلى بناء تنمية حقيقية وتحقيق إنجازات على صعيد العدالة الاجتماعية، لكنها أخفقت إجمالاً في بناء دولة حديثة ذات مؤسسات فاعلة، وعانت من مركزية مفرطة أوقعتها في شرَكِ تجاهل حقوق الإنسان، بل والإمعان في انتهاكها غالباً. بعض آخر من معارك صدام ارتبط بالمواجهة مع قوى الهيمنة الإقليمية أو العالمية، وتبرز في هذا الصدد الحرب العراقية- الإيرانية التي شاع بعد سقوطه أنها كانت مغامرة خاصة به، والحقيقة أنها كانت "عملاً عربياً مشتركاً" يتصدى لخطر تصدير نموذج الثورة الإيرانية آنذاك، إذ أنه باستثناء فئة قليلة من الدول العربية، على رأسها سوريا وليبيا، كانت غالبية الدول العربية تؤيد صدام حسين في حربه ضد إيران بالجنود أو بالسلاح أو بالمال... أو على الأقل بالدعم الدبلوماسي، كما تُظهر ذلك قرارات قمة عمان عام 1987. بل إن تقاطع المصالح العربية والأميركية في الموقف من الثورة الإيرانية حينئذ، جعل صدام يحظى بتشجيع ودعم أميركيين في حربه ضد إيران، شريطة ألا يؤدي هذا الموقف الأميركي إلى انتصاره في الحرب؛ فقد كانت الولايات المتحدة تريده قيداً على إيران وليس قوة إقليمية كبرى في المنطقة. وعندما انتهت الحرب لصالح العراق عام 1988، وبدا أنه في طريقه للاضطلاع بالدور القيادي عربياً، بدأت المواجهة الحقيقية مع الولايات المتحدة، وهي مواجهة وصلت ذروتها باحتلال العراق في إبريل 2003. بعض ثالث من معارك صدام ارتبط بحلمه بدور قيادي إقليمي، ولعل غزوه للكويت في أغسطس 1990، يمكن أن ينسب إلى ذلك الحلم، وإن بقدر من عدم الدقة، إذ أن ملابسات الغزو متشابكة ما بين اعتبارات عراقية وعربية وأميركية، وإن كانت هذه الاعتبارات لا تقلل بحال من خطئه المُشين في غزو بلد عربي جار، بحيث يمكن اعتبار أن معركته هناك هي التي كتبت نهايته وليس تنفيذ الحكم بإعدامه منذ أيام. لم تكن محاكمة صدام حسين بعد اعتقاله في أعقاب دخول قوات الاحتلال إلى العراق، ثم إصدار الحكم بإعدامه في سياق هذه المحاكمة، وأخيراً تنفيذه على نحو ما شهده العالم في ذلك الشريط المصور... هي أولى معارك صدام إذن وإنما كانت آخرها. واللافت أن صدام، على الرغم من أية اعتبارات، أخرى كان مؤهلاً لخسارة هذه المعركة رغم ما كان بيديه من أوراق منذ بدايتها. ذلك لأن خصومه في هذه المعركة -عكس كل معاركه السابقة- كانوا هم المتحكمون وحدهم في إيقاع معركته الأخيرة، وكان بمقدورهم إخراجها على النحو الذي يريدون، لكنها انتهت إلى أن تكون أكثر معاركه نجاحاً. أجاد صدام منذ البداية استخدام ورقته الرئيسية: أنه يحاكم في ظل احتلال أجنبي، وبالتالي فإن ما بني على باطل فهو باطل بدوره، وتمسك بهذا الخيط طيلة محاكمته فيما بدا خصومه الذين حلوا في السلطة محله بالغي الارتباك؛ يغيرون القضاة واحداً تلو الآخر سعياً إلى قاضٍ ينفذ ما يريدون بعيداً عن أن يكون ضميراً لعدالة من أي نوع، ويحرمون دفاعه من أبسط حقوقه، ويعلنون عن حكم الإعدام قبل أن ينطق به القاضي، ويطالبون "الشعب العراقي" بأن يكون منضبطاً في "ترحيبه" بهذا الحكم، وينفذون حكم الإعدام قبل الفصل في اتهامات أخرى منسوبة لصدام من شأن الفصل فيها أن يحدد المواقف القانونية لكثيرين غيره، بما يجعل من تنفيذ الحكم بحقه انتقاصاً من حقوق المدعين الآخرين في القضايا التي لم يفصل فيها بعد. ولو كان أبناء الشعب العراقي يأمنون على حياتهم ولقمة عيشهم، لأمكن لهم أن يتلهَّوا بهذه المسرحية، لكن مشكلة خصوم صدام أن العراق بات معهم في وضع أسوأ بما لا يقاس مع عهده السابق، حيث فقد استقراره وتماسكه وأمنه، وبقيت فيه انتهاكات حقوق الإنسان إن لم تكن قد تفاقمت بشهادة عدد من المنظمات الدولية، وهو ليس بالأمر الغريب على أي حال طالما أن منتهكي حقوق الإنسان قد زادوا طرفاً رئيسياً هو المحتل الأجنبي. هكذا ضيَّع خصوم صدام على أنفسهم فرصة ذهبية أولى في أن يثبتوا أن عراقاً ديمقراطياً جديداً قد نشأ -أو على الأقل يمر بمرحلة المخاض- بما يفتح آفاقاً رحبة لمستقبل شعبه الذي عانى طويلاً من الاستبداد السياسي والهيمنة الأجنبية معاً. غير أن هذا كله يهون إذا ما قورن بملابسات الإعدام ذاته، فبالإضافة إلى تنفيذ الإعدام في أول أيام عيد الأضحى، بكل ما يحمله اختيار التوقيت من رسائل شديدة الفجاجة، جاءت التصريحات الطائفية البغيضة لتعلن أن ذلك اليوم لم يكن يوم عيد عند "العراقيين"، ثم ثبت بالصورة والصوت أننا كنا إزاء "عصابة طائفية" وليس مؤسسات دولة تنفذ الحكم، فقد بدت عملية تنفيذ الحكم وكأنها انتقام لـ"آل الصدر" -كما بينت الهتافات الكريهة التي صاحبت شنق صدام- وليست قصاصاً عادلاً للعراق وأهله! وإذا كانت الحكومة العراقية غير قادرة على ضبط وقائع إعدام رئيس في حجرة مغلقة، فلا عجب إن كانت عاجزة عن حفظ أمن بلد بأسره، بل لا عجب إن كانت طرفاً أصيلاً في هذا الإخلال بالأمن. وهكذا أضاع جلادو صدام فرصة ذهبية ثانية للادعاء بأن تنفيذ الحكم كان شأناً عراقياً وطنياً، وسقطوا للأسف في بئر الطائفية البغيضة الذي ندعو الله أن ينجي منه العراق وأهله. حاول جلادو صدام قبل تسرب الشريط المصور عن إعدامه الادعاء بأنه واجه لحظاته الأخيرة خائفاً مرتعشاً، وذلك إمعاناً في تشويه صورته، فجاء ذلك الشريط ليثبت العكس على طول الخط. فالرجل تمتع برباطة جأش مذهلة، الأمر الذي جعل رحيله في عيون الكثيرين جديراً بأن يكسبه صفة البطولة. وهكذا أضاع جلادو صدام على أنفسهم فرصة ذهبية ثالثة للقضاء على صدام كرمز بل لقد حولوه لدى أنصاره إلى أسطورة، وأكسبوه تعاطفاً عربياً وإسلامياً وعالمياً واسعاً، ما كان ليحدث لو أن ملابسات محاكمته وطريقة إعدامه قد تمت وفق صحيح القانون والمعايير الإنسانية. ظهر العراق من خلال نافذة محاكمة صدام، ثم ملابسات إعدامه في وضع مخيف. دولة خاضعة لاحتلال أجنبي، تخترق مؤسساتها ميليشيات طائفية مسعورة، وحكومة غير قادرة على حفظ النظام وضمان حقوق الإنسان في "حجرة"، فما بالك بمسؤوليتها عن سلامة وطن؟! وبدا مستقبل الأمة العربية بدوره مخيفاً، فيما لو قدر للأعراض العراقية أن تنتشر ولو في محيطها المباشر، ناهيك عن أن تؤثر في الجسد العربي كله.