نعرض في هذا المقال لخاتمة خطاب البابا بينديكت السادس عشر، وهو يشكل -كما قلنا في مقال سابق- لحظة التركيب في هذا الخطاب، بعد القسم الأول منه (الأطروحة) والقسم الثاني (طباقها). وقبل إبداء الرأي في هذه الخاتمة ندع القارئ يطلع عليها أولاً. يقول الباب: "أَصِل الآن إلى خاتمة هذه المحاضرة. إن هذه المحاولة التي رسمنا فيها الخطوط العريضة لنوع من النقد الذاتي للعقل الحديث لا علاقة لها مع إرادة العودة إلى ما قبل عصر الأنوار ورفض الإضاءات التي جاءت بها الحداثة. إن أهمية الفكر الحديث وتطوره الواسع أمر مقبول بدون قيد ولا شرط. نحن جميعاً نعترف بروعة الإمكانات التي انفتحت أمام النوع الإنساني وبأنواع التقدم التي حصلت. إن أخلاقيات الروح العلمية -كما أشرتم إلى ذلك جناب العميد- تقتضي الخضوع للحقيقة، وبوصفها كذلك فهي تعبير عن موقف ينتمي إلى الاختيارات الأساسية للروح المسيحية. إن هدفنا هنا ليس القيام بعملية إفقار واختزال ولا بنقد سلبي. إن ما هدفْنا إليه هو إضاءة المفهوم الذي لدينا عن العقل وعن استعماله. ذلك أننا في الوقت الذي ننشرح فيه للإمكانات الجديدة التي تنفتح أمام الإنسانية، نشاهد في الوقت نفسه أخطاراً تنمو مع هذه الإمكانات نفسها، ومن الواجب علينا أن نفكر في كيفية التحكم فيها. ولن نستطيع ذلك إلا إذا اتحد العقل والإيمان بصورة جديدة، إلا إذا تجاوزنا الحدود التي فرضها العقل على نفسه (بالتقيد بما يقبل التحقق تجريبياً)، وكشفنا الغطاء من جديد عن آفاقه الرحبة. وبهذا المعنى سيجد اللاهوت مكانه كاملاً في الجامعة وفي الحوار الرحب بين العلوم، ليس فقط بوصفه مادة تاريخية من مواد العلوم الإنسانية، بل وبالتحديد بوصفه لاهوتاً، بوصفه بحثاً في معقولية الاعتقاد الديني. حينذاك فقط سنكون قادرين على القيام بالحوار الحقيقي بين الثقافات والديانات، هذا الحوار الذي أصبح ضرورياً لا يحتمل التأجيل". "لقد انتشرت في العالم الغربي، انتشاراً واسعاً، تلك الفكرة القائلة بأن العقل الوضعي والفلسفات التي تقوم عليه هما وحدهما يتوافران على المصداقية الكلية ["الكونية"]. أما الثقافات التي ما زالت دينية في عمقها فإنها ترى في هذا الاستبعاد لما هو لاهوتي من "كونية" العقل اعتداءً على أعمق معتقداتها. إن العقل الذي يصم آذانه إزاء ما هو إلهي والذي ينفي الدين في خانة الثقافات غير المتطورة هو عقل عاجز عن الدخول في حوار الثقافات. وفي الوقت نفسه، وكما أوضحت سابقاً، فإن العقل العلمي الحديث بعناصره الأفلاطونية الثاوية فيه (=الرياضيات)، يحمل معه سؤالاً يشير إلى أبعد منه، إلى أبعد من إمكانيات مناهجه". "إن على العقل العلمي الحديث أن يقبل، بكل بساطة، كمعطى واقعي البنية العقلية للمادة، تماماً كما أن عليه أن يقبل التناظر بين فكرنا وبين البنيات العقلانية (الرياضية) للطبيعة بوصفها معطى واقعياً تتأسس عليه منهجيته (=العلم). أما مسألة معرفة لماذا يجب أن يكون الأمر هكذا، فهي مسألة ما تزال تستحق أن تطرح، ويجب أن تحيلها العلوم الطبيعية على أشكال أخرى من الفكر، على الفلسفة واللاهوت". "بالنسبة للفلسفة، والأمر هنا يختلف بالنسبة للاهوت، فإن الإنصات للتجارب والحدوس الكبرى التي تنبثق من ممارسة الشعائر في الديانات الإنسانية، ومن العقيدة المسيحية بصورة خاصة، مصدر من مصادر المعرفة، وتجاهل هذا المصدر هو حصر غير مقبول لقدرتنا على الإنصات وإيجاد الحلول". "هنا أتذكر ما قاله سقراط لفيدون (في محاورة أفلاطون). فبعد أن نوقشت في الحوارات الأولى عدة أفكار فلسفية خاطئة، قال سقراط: "إنه سيكون من السهل فهم كيف أن الواحد منا يمكن أن يبلغ به الغضب، بسبب هذه المفاهيم الخاطئة، درجة تجعله يقرر أن يظل فيما يبقى له من عمره كارهاً لكل خطاب حول الموجود وساخراً منه". غير أنه بهذه الطريقة -يقول البابا- سيصير محروماً من حقيقة الوجود فيعاني من خسارة كبيرة". "لقد تعرض الغرب للخطر طويلاً بسبب إقصائه للمسائل الأساسية التي تقوم عليها عقلانيته، وهو بهذا كان لابد أن يعاني من آلام عظيمة. إن الطموح الجريء الرامي إلى توسيع مجال العقل، بدل حصره في مجال ضيق، ذلك هو البرنامج الذي يجب أن يعتمده اللاهوت المبني على العقيدة الإنجيلية في حوارات عصرنا. إن عدم استعمال العقل في التصرف، هو شيء ضد طبيعة الله، حسب الفهم المسيحي لله، كما قال مانويل الثاني في رده على مخاطبه الفارسي. فبهذا اللوغوس الكبير وبهذه الرحابة التي للعقل، ندعو شركاءنا في حوار الثقافات. والسعي المتواصل في الكشف عنه هو المهمة الكبرى للجامعة". انتهى. وبعد، فقد كان غرضنا في هذه السلسلة التي خصصناها لخطاب البابا، إطلاع القارئ العربي على نص هذا الخطاب كاملاً، وفي نفس الوقت إبداء الرأي فيما بدا لنا في فقراته من أمور نخالفه فيها، مفكِّكين ومصححين. لقد اخترنا هذه الطريقة بدل اقتباس جملة من هنا وعبارة من هناك وعزلهما عن سياقهما ثم تركيب ردود عليهما وعلى الخطاب ككل. لقد فضلنا التعريف بالخطاب ككل حتى يفهم القارئ أفق تفكير صاحبه والهدف الذي أراده منه، والذي أجمل القول فيه في خاتمته التي أوردنا نصها أعلاه. في هذه الخاتمة جانبان: الأول هو مناقشة البابا للعقل الأوروبي كما هو الآن في مجال التقنية وكما تفهمه وتمارسه الفلسفات الوضعية، وهذا الجانب لا يهمنا، بل يمكن أن نقول إننا معه في نفس الخط، مع هذا الفارق وهو أنه قد سبق لنا أن انتقدنا في عدة مناسبات هذا العقل التقنوي تحت الاسم الذي يطلق عليه في الفكر النقدي الفلسفي المعاصر، اسم "العقل الأداتي"، منتصرين في المقابل لـ"العقل المعياري". أما البابا فهو إذ ينتقد "العقل العلمي" جملة فهو ينتصر للعقل اللاهوتي، وهذا ما يفرقنا في هذه المسألة. وقد نضيف أننا لو جاز لنا أن ننتصر لطرف معين داخل اللاهوت المسيحي، لشددنا بحرارة على يد "هارناك" الذي يدعو إلى الرجوع إلى المسيحية كما جاء بها السيد المسيح عليه السلام، والتخلي عن القول بألوهيته وعن التثليث وعن الطقوس والشعائر التي لم يأت بها... ذلك عن الجانب الأول في خاتمة خطاب البابا، أما الجانب الثاني فلابد، للكشف عنه، من تفكيك الثلاثية الهيجيلية التي سُبك فيها. فإذا نحن طبقنا فعلاً العلاقة بين الأطروحة والتركيب (بين الإثبات ونفي النفي)، كما حددها الفيلسوف هيجل، وهي علاقة "التجاوز مع الاحتفاظ"، فسنجد خاتمة الخطاب الذي نحن بصدده تحتفظ فعلاً بجزء من الأطروحة وتستعيده في "التركيب". والجزء الذي يُحتفظ به ويستعاد في التركيب ليس أي جزء من الأطروحة، بل الجزء الأساسي فيها، الجزء الذي من أجل الارتفاع به إلى مستوى التركيب وضع في الأطروحة. وإذا نحن فحصنا عن الجزء المستعاد من الأطروحة في خاتمة هذا الخطاب وجدناه مصرحاً به بقلم البابا نفسه عندما قال: "إن عدم استعمال العقل في التصرف، هو شيء ضد طبيعة الله". وقد بينا قبل أن المعنيَّ هنا هو الإسلام الذي سبق أن استهدفه البابا على لسان الإمبراطور بسؤال: "أرني إذن ما الذي جاء به محمد من جديد؟ إنك لن تجد غير أمور شريرة ولاإنسانية، مثل ما أمر به من استعمال السيف لنشر العقيدة التي جاء بها". هذا الجزء المستعاد في الخاتمة قد ارتفع به البابا على مستوى "التركيب" إلى الصيغة التالية، إذ قال: "فبهذا اللوغوس الكبير وبهذه الرحابة التي للعقل ندعو شركاءنا في حوار الثقافات". وقد حدد ما يعنيه بـ"رحابة العقل" بكونه "البرنامج الذي يجب أن يعتمده اللاهوت المبني على العقيدة الإنجيلية في حوارات عصرنا". باختصار نقول: إننا بتطبيق منهج هيجل، مواطن البابا، على خطاب الحبر الأكبر، نخلص إلى النتيجة التالية: إن الإسلام يستعمل العنف في نشر عقيدته و"نحن" (المسيحية الكاثوليكية على عهدنا نحن البابا بينديكت السادس عشر) نؤمن، كما يؤمن الإمبراطور البيزنطي، بأن عدم صدورنا في أفعالنا عن العقل لهو سلوك مناف لطبيعة الله. والعقل المقصود هنا ليس أي عقل كان، بل "اللوغوس" الإغريقي كما "هذبه" النقد اللاهوتي المسيحي، ولذلك ندعوكم أيها المسلمون إلى تبني هذا العقل "الإغريقي اللاهوتي" في الحوار بيننا وبينكم، في إطار حوار الثقافات. هل نرفض هذه الدعوة؟ لا، ولكن من حقنا أن نطلب من البابا أن يحررها، ويحرر تحليله كله، من قيود "المركزية الأوروبية". نحن نريد حواراً بين أنداد متكافئين، يعترفون ببعضهم بعضاً، كمتفقين على أشياء ومختلفين في أشياء. وحتى لا نبقى في المجال الذي قيد به البابا نفسه، أو لعله مقيد به بحكم المنشأ والانتماء والوظيفة، سنقدم في المقال القادم عناصر رؤية بديلة لرؤية البابا، نخلص بعدها إلى مشروع برنامج لحوار مثمر، بعيد عن كل مركزية.