من المؤكد أنه توجد تحديات ومخاطر وتهديدات تواجه الأمن العربي المشترك، ومن الطبيعي أيضاً أن يكون هناك اتفاق عربي شامل على الحد الأدنى لأسلوب التعامل معها، بل ومن الواقعي كذلك أن تلتزم الدول العربية كلها بتنفيذ ما جرى الاتفاق الجماعي عليه. ولكن واقع الأمن العربي يثير من علامات الاستفهام والأسئلة المصيرية ما يشير إلى قتامة الصورة، بل واليأس من إمكانية إصلاحها، والإحباط من محاولة فهم ما يحدث، ويصوغ كل ما يخص مسألة الأمن العربي في إطار الشعارات والأحاديث الجوفاء والنظريات التاريخية. فمن المسؤول عن تحديد أو صياغة خريطة الأمن العربي؟ أو بعبارة أخرى: من المسؤول عن تحديد ما يؤثر في الأمن العربي، ويضع آليات التعامل الجماعي معها؟ ومن يملك القدرة على إقناع الدول العربية كافة بأن ما يهدد دول الخليج العربية يمثل تهديداً غير مباشر لدول المغرب العربي؟ ومن يملك الحجة الدامغة على تأكيد أن ما يحدث في العراق وفلسطين ولبنان والسودان يهدد مباشرة الأمن العربي؟ بل ومن يستطيع أن يقنع العراقيين والفلسطينيين واللبنانيين بأن ما يحدث على أرضهم وبأيديهم مرتبط مباشرة بالمصالح الاستراتيجية للأمن العربي؟ وكيف يقتنع العرب بأن احتلال أي أرض عربية من أي قوى أجنبية أو عربية؛ هو احتلال يجب أن تجري مقاومته بكل السبل والوسائل المتاحة، ولا يمكن التفرقة بين احتلال وآخر؟ ومن يستطيع أن يجعل الحكومات العربية تدرك أهمية عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وأن تعمل على حل مشكلاتها البينية بالطرق السلمية؟ وكيف يفهم العرب أن عدم فهمهم لأهمية الأمن العربي وإدراكهم لضرورة العمل العربي المشترك تجاه القضايا المصيرية يتيح الفرصة لدول العالم الأخرى والتكتلات الإقليمية والدولية للتدخل وفرض أجندتها؟ قائمة الأسئلة طويلة ومتداخلة ولكن ما يهمنا هو التعرف على المسؤول عن كل ذلك أو ما نطلق عليه المسؤول عن تحديد خريطة الأمن العربي، وهنا سيتبادر إلى الذهن "جامعة الدول العربية" وبعض المنظمات الإقليمية العربية الأخرى. ولكن بالنسبة لجامعة الدول العربية ودورها في تحديد "الأمن العربي"، نجد أن مناقشة هذا الدور تقود إلى ثلاثة مستويات، الأول هو دور أمين عام الجامعة السيد "عمرو كوسة"، والثاني دور الاجتماعات الوزارية، والمستوى الثالث هو دور مؤتمرات القمة العربية. سنجد أن الأمين العام للجامعة لم يستطع حتى الآن صياغة رؤية واضحة لخريطة الأمن العربي، بل إنه أصبح أحد أسباب عدم صياغة مثل هذه الرؤية، فهو تارة يتناسى أن إيران تحتل أرضاً عربية، وتارة أخرى يعمل كوزير خارجية غير متفرغ للدفاع عن أمن دول بعينها، ولكن دون أن يتم التعامل العربي معها، وفي أحيان كثيرة يتصرف بطريقة فردية كرئيس لجمهورية الجامعة العربية العظمى ويتدخل فيما لا يعنيه، ويثير من المشكلات ويعقدها أكثر من الإسهام في حلها، ولم تستطع الأمانة العامة للجامعة حتى الآن سواء في عصره أو عصر معظم سابقيه أن تطرح وثيقة للأمن العربي تستطيع أن تقنع الدول العربية بالإجماع عليها، بل الغريب والمثير أن مصطلح "الأمن القومي العربي"، لا يزال شعاراً مطروحاً دون معنى، فلا يوجد أمن عربي بالمفهوم المتعارف عليه للأمن، وبالطبع لا يوجد ما يمكن أن نطلق عليه "القومية العربية" في ظل انتشار الصراعات والمشكلات بين الدول العربية، وتدخل بعض الحكومات العربية في شؤون دول عربية أخرى وتأليب قواها الداخلية بعضها على بعض. أما إذا ناقشنا بهدوء دور المجالس الوزارية العربية وجهودها في مجال الأمن العربي، فسنجد أن ما يتم الاتفاق عليه يظل سجين الورق والخزائن، ويصعب تنفيذه فعلياً لسبب بسيط، أن هناك عبارات تحمل أكثر من تفسير وأكثر من معنى، وتفتح ثغرات وأنفاقاً وفجوات كثيرة داخل الاتفاق تتيح لبعض الدول العربية التنصل من تنفيذه أو تجميده أو عدم الالتزام به، والأمثلة كثيرة. أما مؤتمرات القمة العربية فإن قراراتها عبارة عن توصيات غير ملزمة لأحد، ناهيك عن أنها لم تفلح قط في إصلاح ذات البين في خلاف بين أي دولتين عربيتين، كما أن الاتفاقيات التي جرت المصادقة عليها لم تطبق على الأرض وليس آخرها اتفاقية الدفاع العربي المشترك الموقعة عام 1952. ومن المثير للدهشة والاستغراب أن المنظمات الفرعية الإقليمية العربية الأخرى، لم تأخذ العظة والدرس من المنظمة الأم، ولم يختلف حالها كثيراً سوى في التقدم بضع خطوات في اتجاه التنسيق الاقتصادي، والاتفاق على معاهدات دفاعية مشتركة أكثر دقة من ناحية الصياغة وأكثر تحديداً من ناحية الالتزامات، إلا أنها وقفت عند هذا الحد ولم تتجاوزه إلى الخطوات المتفق عليها للتنفيذ، ولم تستطع أيضاً اللجان الوزارية ومؤتمرات القمة أن تضع خريطة للأمن الإقليمي الفرعي، وتضمن الحد الأدنى من الاتفاق على مصادر التهديد والخطر، وتوحيد الصف أمام التحديات المختلفة. وقبل ذلك وبعده لم يتوصل المفكرون والخبراء والكتاب العرب في مجال الأمن القومي، إذا وجدوا، إلى حل مناسب لتجسير الفجوة بين طرحهم النظري، ورؤى متخذ وصانع القرار، ومطالب الشعوب العربية، الأمر الذي جعل بعضهم يتوقف عند حدود النقد والانتقاد، وبعضهم الآخر يعيش في كنف السلطة الحاكمة يسعى إلى تبرير أفعالها تحت زعم حاجات الأمن الوطني، بينما نجد فرقة ثالثة لا زالت تعيش في "الحلم العربي"، يحدوها الأمل بأن العرب اليوم في "كبوة" سرعان ما تزول، ونسوا أو تناسوا أنه منذ قيام جامعة الدول العربية عام 1945 والحال كما هو عليه، ولم يلجأ أي متضرر للقضاء. لذلك كان البديل لذلك كله هو توجه الدول العربية فرادى نحو التحالفات والمعاهدات مع الدول الأجنبية الكبرى والعظمى، على اعتبار أنه السبيل الوحيد لحماية أمن الدول العربية في مواجهة الخلل الاستراتيجي في التوازن العسكري، وفي ظل الوهن الذي أصاب التعاون العربي وانعدام الاتفاق على خريطة الأمن العربي، والتوصل إلى صيغة مناسبة لمفهوم الأمن العربي يستطيع التوفيق بين الدول العربية من المحيط إلى الخليج. ربما يشير استشراف مستقبل الأمن العربي إلى استمرار الوضع الراهن، من افتقاد لخريطة التهديدات والمخاطر؛ وضياع بوصلة التعامل معها، وذلك لأسباب كثيرة معظمها كامن في ثقافة الشخصية العربية من قدرة على الطرح النظري، والتمسك بالشعارات دون أي واقع يسانده، والتشدق بالمصطلحات دون عمق كافٍ لتطبيقها، والاتفاق على عدم الاتفاق على تحديد المصالح المشتركة للأمن العربي، وأن الاختلاف "يفسد" للود قضايا وعلاقات لن يتم حلها أبداً، وأن الرأي الآخر خيانة، وأن أي نجاح في الاتفاقات البينية بين الدول العربية يخفي وراءه مؤامرة ضد دولة أخرى، ويفتقر قاموس الأمن العربي إلى كلمات مثل الالتزام بالمعاهدات الموقعة واحترام السيادة الوطنية وعدم الاستقواء. هناك حاجة ماسة لتشكيل "هيئة أو مؤسسة عربية للأمن الإقليمي"، تقع على عاتقها صياغة اتفاقية لإقامة نظام للأمن العربي. ومن خلال التوصل إلى التحديد الدقيق لخريطة الأمن بأبعادها المختلفة يمكن التوصل إلى إجماع عدد مناسب من الشعوب والحكومات العربية التي ربما تكون نواة لـ"مجلس أمن عربي"، والاتفاق على الآليات الملزمة للتطبيق، وتأخذ في الاعتبار المصالح الأمنية المشتركة، والتهديدات الموجهة لها، لأن البديل هو استمرار استباحة الأمن العربي بأبعاده كلها، وازدياد هوة الفرقة، وتقسيم العرب إلى شرق وغرب وشمال وجنوب، وعالم درجة ثالثة، وآخر درجة رابعة، وعالم نامٍ وآخر نايم.... وعام سعيد.