فوجئ، ربما العديد من المفكرين المشاركين في ندوة البحث عن "مشروع حضاري نهضوي عربي"، في "فاس" 2001، بما قاله د. عبدالعزيز الدوري، الأكاديمي والمؤرخ العراقي البارز، في ورقته عن تعريف هذا المشروع. فقد استهل حديثه بالقول إننا في العالم العربي،"ونحن نتحدث عن مقومات الوحدة العربية، ونفترض أنها كانت قائمة في التاريخ وأن التجزئة وقعت بسبب الاستعمار، ننسى أن الوحدة السياسية لم تُعرف في التاريخ العربي إلا في صدر الإسلام، في إطار مفهوم الأمة الإسلامية. وأن التجزئة تلت تلك الفترة، وأن مفهوم الأمة العربية لم يترسخ إلا في فترة التجزئة السياسية". وأضاف المؤرخ: "لم نسأل عن العوامل الداخلية للتجزئة، من سياسية إلى مذهبية، إلى إقليمية، وهي في مجموعها الأهم والأبعد أثراً. فجاءت نظرتنا إلى الوحدة العربية سطحية، وخلطنا بين مفهوم الأمة الواحدة، وهو قائم وثقافي، وبين مفهوم الدولة الواحدة الذي صار ذكرى غائمة. إن هذه النظرات، والارتباك في المفاهيم، كانت من أسباب الإحباطات في أمر الوحدة". والمؤرخ الدُّوري محق ولاشك. فاللغة العربية، والتاريخ ومعطيات الثقافة عموماً واحدة أو متقاربة في العالم العربي، دون أن نرفع الكثير من الشعارات في هذا المجال أو نقوم بالثورة والانقلابات. أما الوحدة السياسية، وقضية الدولة الكبرى من المحيط إلى الخليج، فقد فشلنا فيها رغم كل الجهود والتفكير والتنظير والمحاولات. وبعد كل ما أصاب العالم العربي من موجات اليأس، عاد الناس إلى التراث، لعل فيه خلاصهم. ولكن هل يقدم تراثنا حلاً لمشاكلنا السياسية؟ كلاَّ فيما يبدو، فمثلاً يقول د. الدوري: "تتكرر الإشارات إلى الشورى وتقرن بالديمقراطية، وتوضع التفاصيل عن كيفيتها في اختيار الحاكم وعن حدودها. ولكنها آراء فقهية نظرية تأثرت بالواقع التاريخي المتجه باطراد نحو الاستبداد، يُكيِّفها ولا تكيِّفُه. لقد قدم الفقهاء آراء جميلة في الاختيار وفي دور أهل الحل والعقد، ولكن المسلمين لم ينجحوا في إحداث مؤسسات تبلورها وتجسدها، فبقيت حبراً على ورق. وكان خوف الفقهاء من أخطار الفتنة وتمزق الجماعة الإسلامية، ومن هنا التأكيد على عدم الخروج، والطاعة لأولي الأمر. وقيل إن الشورى هي الديمقراطية، وهذا فيه نظر. فالشورى اختيارية والقرار للحاكم، والديمقراطية تقترن بالتعددية السياسية، وهذه لم تجد مجالاً مع الشورى". ويشير د. الدوري إلى الرأي الذي ساد فترة طويلة ولا يزال في أوساط الوحدويين: "إن كل تفكير في مشروع نهضوي بمنأى عن مطلب التوحيد القومي ضرب من الطوبي" (الطوباوية- اللاواقعية). والواقع أن العالم العربي بحاجة إلى التنسيق والتخفيف من الحواجز الجمركية والاستثمارية لا "التوحيد القومي"، لأن مثل هذه الخطوة الأخيرة في غاية الصعوبة الآن، كما نرى من واقع التجربة الأوروبية مثلاً. ولهذا، اتجه الفكر القومي في سعيه إلى تحقيق نهضة سريعة، كما يقول د. الدوري، إلى الانقلاب أو الثورة للتعجيل بالنهضة والوحدة. فكما يؤكد ميشيل عفلق مثلاً "الشِّقّة واسعة وبعيدة ولابد من الانقلاب حتى يتحقق الارتقاء العسير". ورأى عبدالناصر في الثورة طريقاً واحداً لعبور العرب من الماضي إلى المستقبل. وبالتالي وضع الفكر القومي "الشرعية الثورية" أو "الانقلابية" في مواجهة الشرعية الديمقراطية والدستورية، وتعامل مع فكرة ومبدأ "الحرية" باعتبارها حرية الوطن فحسب. ويرى البعض أن استخفاف الفكر القومي بالصعوبات التي تقف في وجه الوحدة يعود إلى عاملين رئيسيين، الأول ربط التجزئة بتطورات العصر الحديث وعدم سبق ظاهرة الاستعمار الغربي. والثاني: رفضه الإقرار، لاسيما في مرحلة ما بعد الاستقلال، بشرعية الدولة القطرية. (عن: ماهر شريف، الطريق، ديسمبر 1997). ومن أهم ما في ورقة د. الدوري حول أسباب تعثر المشروع النهضوي العربي، إشارته إلى ما لاحظه بعض المفكرين من أن القوميين العرب أنتجوا نظرية الأمة، لكنهم لم ينتجوا نظرية في الدولة القومية. "فهم يريدون دولة قومية بصرف النظر عن طبيعتها (اندماجية، اتحادية... الخ)، لكن ما هو موقفهم من طبيعة النظام السياسي فيها، من الديمقراطية، من المجتمع المدني، من الأقليات القومية. إن الفقر في إنتاج نظرية الدولة سوغ لكل أنواع الحكم، ثم إن الفكرة القومية لم تحقق هيمنة ثقافية عامة تتحول بها إلى أيديولوجيا سياسية للأمة، بل ظلت، فكرة نخبوية محدودة الانتشار". ولعل هذه الثغرة البارزة هي التي تسببت مثلاً، في انقسام المثقفين والتيار القومي، ومن ورائهم شعوب العالم العربي في كل منعطف تاريخي وأمام كل قرار سياسي كبير أو حدث جلل، كما رأينا مثلاً عام 1990، عندما وقع عدوان طاغية بغداد على الكويت. ويرجع برهان غليون تراجع الفكرة القومية لأسباب عديدة منها "أن أكثر القادة العرب استبداداً واستخداماً للعنف قد نشأوا وتطوروا في العقدين الماضيين (أواسط السبعينيات وما بعد) في حضن الأنظمة القومية أو التي لا تزال تستمد مشروعيتها من الفكرة القومية العربية". ويشر "جورج حبش" في مقال له في نفس المجلة، أي "الطريق"، ديسمبر 1997، إلى جملة من الأمراض التي حاصرت الفكر القومي، فقد عجزت عن التوفيق بين الأصالة والحداثة، فوقعت في قدر من الاستلاب للنموذج الغربي، وفي مرحلة تالية اصطدمت حتى مع النموذج الغربي وقيمه، عندما قطعت العلاقة مع أهم هذه القيم، أي الديمقراطية، لصالح فلسفة انقلابية، خسرت بدورها ما بها -أي الانقلابية- من مزايا، وتحولت إلى نزعة عسكرية تعتمد على البيروقراطية والفردية، فاجتاحت الأزمة الأفكار القومية والوجود القومي العربي نفسه. ويرى مفكرون آخرون أن الفكر القومي لم يستطع ملاحقة الوقائع الأساسية التي فرضتها التغييرات الدولية، من هزيمة حزيران إلى الثورة الإيرانية، إلى حروب الخليج الأولى والثانية، إلى انتهاء الحرب الباردة، إلى انهيار المنظومة الاشتراكية، إلى ثورة المعلومات والاتصالات. فالفكر القومي لم يناقش أثر هذا كله في معنى القومية والهوية والوحدة، ولم يُبدِ تعديلاً للموقف من الديمقراطية ومن حقوق الإنسان. بل إن الفكر القومي لم يسعَ إلى تجديد نفسه، ربما لأنه لا يزال يمسك بالسلطة في أقطار عربية أساسية كانت موئلاً لانطلاقة هذا الفكر وانتشاره. ومن هنا، يقول هؤلاء إنه لابد من إعادة نظر جذرية في الفكر القومي، تستفيد بها من الثورة المعرفية الحالية ومن الخبرات العربية خلال مئة عام، ومن التعديلات في العلاقات الدولية. ويتساءل الفكر القومي: هل هناك شكل محدد للوحدة؟ وهل الوحدة الفورية أفضل أم التدرج؟ وهل بإمكاننا أن نحقق تنمية شاملة ونحن مجزأون؟ وبعض هذه التساؤلات يشبه حيرة الإسلاميين في "تطبيق الشريعة"، هل من الأفضل التدرج فيه أم الاستعجال؟ وكما يرى القوميون الوحدويون في تصوراتهم عن الوحدة "من الخليج إلى المحيط" دواء لكل أدواء العرب، يرى أتباع أحزاب الإسلام السياسي أن تطبيق الشريعة، ضمن تصوراتهم المقترحة، وإقامة ما يعتبرونه "النظام الإسلامي" الحل الوحيد لأمراض العالم الإسلامي، و"نهاية للتاريخ" في دوله! إذ ستهدأ في تصورهم بعد هذه الخطوة، كل المشاكل والصراعات والخلافات... إلى قيام الساعة! ولهذا يعارض بعضهم التدرج في التطبيق، ويطالب جميعهم بتطبيقه شاملاً في كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية. ولكن، هل صحيح، كما يرى الكثير من القوميين، أن العالم العربي لن يتقدم إلا بالوحدة وبعدها؟ كلا بالطبع، فهناك دول متقدمة كثيرة في آسيا وأوروبا وغيرها، متقدمة جداً رغم أنها في حجم الأردن وسوريا وتونس ومصر والجزائر، بل وحتى الكويت والبحرين. فلوم "التجزئة" و"محدوديات الدولة القطرية" كسبب في تخلف العالم العربي وبؤس المسلمين، لوم غير مبرر، وهو مجرد شماعة أخرى، إلى جانب "نظرية المؤامرة الكبرى"، مثلاً، نعلق عليها كسلنا وفشلنا.