حينما عقد المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 قامت كل المنظمات والجمعيات اليهودية، الدينية والعلمانية، بمعارضته. وقد عارضه الدينيون على أساس ديني، باعتبار أن العقيدة اليهودية، على عكس ما يتصور الكثيرون، تحرِّم، نعم، تحرِّم العودة إلى فلسطين وتعتبرها شكلاً من أشكال الهرطقة. أما العلمانيون، فقد عارضوها على أساس أن الحركة الصهيونية تحاول أن تسقط عنهم حق المواطنة في بلادهم. وكانت هذه المعارضة في البداية قوية، ومارست كثيراً من الضغط على الدول الغربية. فعلى سبيل المثال كان المفروض أن يشير وعد بلفور إلى وطن قومي لـ"العرق اليهودي"، ولكن تدخل زعماء الجماعة اليهودية في إنجلترا نجح في إسقاط العبارة العنصرية وحلت محلها عبارة أخف وطأة في عنصريتها وهي "الشعب اليهودي"، وقد حاول الصهاينة عقد مؤتمرهم الأول في مدينة ميونيخ في ألمانيا لأنها كانت تضم واحدة من أكبر الجماعات اليهودية في أوروبا، ولكنهم اضطروا للانسحاب، وإلى نقل المؤتمر إلى مدينة بازل، التي لم يكن فيها سوى جماعة يهودية صغيرة، وذلك بسبب معارضة الجماعة اليهودية في ميونيخ. وقد أخذت المعارضة اليهودية في التراجع والتضاؤل، ومع هذا ظلت هناك مجموعة من المفكرين اليهود المرموقين يعارضون قيام الدولة اليهودية مثل "هيرمان كوهن" و"فرانز رونزفايج"، ثم في وقت لاحق "مارتن بوبر" و"جيرشوم شوليم" و"حنة أرنت" و"ألبرت أينشتاين" و"هانز كوهن". نعم رفض كل هؤلاء فكرة إقامة دولة يهودية، وبرروا رفضهم بنفس السبب الذي ساقه أنصار إقامة الدولة، حيث دفعوا بأن الشعب اليهودي في جوهره نتاج الروح، وأن تلك الروح ستنحط وستفسد كما حدث بالنسبة لسائر الأمم في اللحظة التي تمسك بزمامها الدبابات، والتي تنغمس في المتفجرات والعمل السياسي والمؤتمرات والبيروقراطية ورأس المال، أي حينما تستخدمها القوة المادية للدولة. وليس معنى ذلك وجوب عدم اشتراك اليهود في العمل السياسي، وإنما وجوب عدم إنشاء دولة يهودية من أجل الحفاظ على الشعب اليهودي ككل (أو على الديانة اليهودية) وعلى نقائه الكامل كمثال يُحتذى به. وتمخضت عن هذه الرؤية الفلسفية حركة سياسية تؤمن بوجوب عدم سعي اليهود إلى أن يصيروا أغلبية في فلسطين وأن تلك البلدة يجب أن تقوم بها دولة ثنائية القومية، أي دولة غير يهودية، لا يكون لليهود فيها أي وضع خاص. إلا أن هذه الرؤية تلقت ضربة شبه قاتلة في أوساط اليهود بعد الحرب العالمية الثانية، إذ بات واضحاً في أذهان اليهود، أنه لو كان هناك نظام حكم يهودي في فلسطين حتى لو كان ضعيفاً لأمكن إنقاذ مئات الألوف بل ربما ملايين اليهود. ولذا فإنه على مدى الأربعين سنة التالية لم تعد هناك معارضة ظاهرة لفكرة الدولة اليهودية ذاتها سواء في الغرب أو في إسرائيل. وفي يونيو عام 1967 تم تهميش المعارضة اليهودية للصهيونية تماماً. إلا أن المناخ الفكري في الوقت الحالي كما يقول يورام هازوني (الدولة اليهودية: الكفاح من أجل روح إسرائيل) قد تغير بدرجة ليست بالهينة بسبب زوال الاتحاد السوفييتي إذ أصبح من الممكن الآن الجهر بأفكار مضادة للصهيونية. والواقع أن السنوات العشرين الأخيرة والفترة ما بعد أوسلو عام 1993 بالذات عرفت مطالبة شخصيات إسرائيلية محترمة بإلغاء قانون العودة ونزع الطابع اليهودي عن الدولة ورموزها مثل العلم الإسرائيلي والنشيد القومي الإسرائيلي، كما طالبوا بتخفيض المحتوى القومي اليهودي من المناهج في المدارس العامة. وقد أُخضع الطابع اليهودي للدولة للانتقاد العلني، ومن أمثلة ذلك قضايا مثل شرعية مفهوم السيادة اليهودية، وشرعية مقررات التاريخ اليهودي الجامعية وصورة الأبطال القوميين من هرتزل إلى جولدا مائير، وعدالة تصرفات إسرائيل في كل حرب خاضتها، ومكانة مدينة القدس في الحياة القومية والحائط الغربي. بل إن علماء التاريخ بالجامعة العبرية يتحدون الآن مقولة إن يهود العصور الوسطى كانوا ضحايا أبرياء للاضطهاد ويدعون أن أولئك اليهود مسؤولون جزئياً على الأقل عن كراهية المسيحيين لهم، أي أنهم ينسفون الرؤية الصهيونية للتاريخ التي هي البنية التحتية للأيديولوجية الصهيونية. يمكن القول في ضوء كل هذه الشواهد بأن الثقافة العامة الإسرائيلية تمر الآن بعملية تحول مكثفة عن الأفكار والأعراف السائدة في إسرائيل باعتبارها دولة يهودية، ويطلق على هذه الظاهرة اسم "حركة ما بعد الصهيونية". وهي حركة لا تهاجم وجود إسرائيل المادي ذاته، ولكنها تشكك في شرعيتها وتهاجم وضعها القانوني والسياسي والأخلاقي كدولة للشعب اليهودي. ويرى يورام هازوني أن دعاة حركة ما بعد الصهيونية لا يمثلون أقلية في الدوائر الأكاديمية والأدبية الإسرائيلية. ثم يضرب مثلاً بما قاله الروائي الإسرائيلي الشهير "آهارون مجيد" في حديث مطول نشرته صحيفة هآرتس عام 1994 إذ أشار إلى أن "مئات من أفضل أرباب القلم في المجتمع الإسرائيلي من الأكاديميين والمؤلفين والصحفيين والفنانين يعملون بإصرار لإثبات عدم عدالة القضية الإسرائيلية ليس بعد حرب عام 1967 والاحتلال الذي هو بطبيعته غير عادل، وليس منذ إنشاء إسرائيل عام 1948 التي ولدت في الخطيئة، بل منذ بداية الاستيطان الصهيوني في أواخر القرن التاسع عشر". لقد تخلى مفكرون إسرائيليون منذ أمد بعيد عن مقولة أن الصهيونية كانت تعبر بالأساس عن قضية عادلة حتى وإن كانت قد تسببت في بعض أعمال ظالمة نادرة. ووصل هؤلاء إلى الاعتقاد بأن قضية الدولة اليهودية كانت خاطئة من حيث المبدأ، ثقافة كاملة مؤسسة على كراهية الدولة اليهودية، بل إن هؤلاء تعودوا على تشبيه الجيش الإسرائيلي في آلاف المقالات ومئات القصائد وعشرات الأفلام الوثائقية بالجيش النازي. وكانت مقالة "آهارون مجيد" بمثابة القطرة الأولى في سيل من الاتهامات والتبريرات والاتهامات المضادة التي واصلت الظهور في جميع وسائل الإعلام الجماهيرية في السنوات التالية، والتي أكدت بشكل مستمر مصطلح ما بعد الصهيونية باعتباره وصفاً لحقبة جديدة في التاريخ الإسرائيلي بدأت، أو هي على وشك أن تبدأ، رايتها التسليم بالوفاة الفعلية للدولة اليهودية. وقد بينت مقالة "أهارون مجيد" والمناظرات التي أعقبتها أن صفوة المفكرين الإسرائيليين الذين ظلت رؤيتهم مُهمشة لأمد طويل قد نجحوا في تقويض رؤية القيادة السياسية وساروا بها في الاتجاه العكسي، إذ أن المثقفين الإسرائيليين وجدوا بعد "أوسلو" أنه قد آن الأوان للنطق بصوت عال بما كانوا يهمسون به من قبل، وسرعان ما اتضح أن اتفاقات "أوسلو" لا تعدو أن تكون شبيهة بقمة جبل الثلج العائم، وفجأة وجدت إسرائيل أن صفحات صحفها قد فتحت لمناقشة أية فكرة أو سياسة من شأنها تقويض الأساس القانوني والأخلاقي لوجودها كدولة يهودية بدءاً من التخلي عن العلم الوطني إلى المطالبة بوضع القدس تحت سلطة الأمم المتحدة إلى المطالبة بإلغاء قانون العودة. ويقول "آهارون مجيد": إن ما كان واضحاً منذ أمد طويل للمطلعين على دخائل الوسط الثقافي الإسرائيلي أصبح الآن واضحاً للجميع، وخلاصته أن فكرة الدولة اليهودية قد أصبحت موضع شك وتشوش في أذهان الإسرائيليين المتعلمين إلى حد يمكن التشكك معه في إمكانية استمرارية بقاء مثل هذه الدولة على قيد الحياة. والله أعلم.