مؤتمر دولي التأم أمس في نيروبي حول الصومال، وملاحقات أميركية لقادة "المحاكم الشرعية" في مياه المحيط الهندي، وتعثر يطبع جهود الحكومة الانتقالية الصومالية لجمع الأسلحة، وبوادر عودة الفوضى مجدداً إلى مقديشو... تلك هي آخر العناوين الإخبارية حول تطورات المسألة الصومالية، أما ما لم تتضمنه هذه الأخبار فهو عناصر الأزمة المستحكمة في الصومال؛ خلفياتها الاجتماعية والتاريخية والجيوبوليتيكية على اختلافها! وصل الرئيس الصومالي المؤقت عبدالله يوسف أحمد إلى مقديشو، يوم السبت الماضي، على متن مروحية عسكرية إثيوبية، بعد يوم من وصول رئيس وزرائه علي محمد جيدي، ويومين من دخول قواته برفقة القوات الإثيوبية، إلى المدينة. إنها بداية حقبة صومالية جديدة، دشنتها المعارك التي اندلعت يوم الـ20 من ديسمبر الماضي في محيط مدينة "بيداوا" بين مقاتلي "المحاكم" وقوات الحكومة مدعومة بالقوات الإثيوبية، مروراً بإعلان أديس أبابا رسمياً يوم الـ24 من الشهر نفسه، دخولها الحرب ضد "المحاكم"، وصولاً إلى خروج "المحاكم" من المدن الصومالية تباعاً، وآخرها "كيسمايو" ذات الموقع الاستراتيجي، مساء اليوم الأخير من العام المنصرم! لم تأتِ أحداث الأيام العشرة الأخيرة من عام 2006 في الصومال، من فراغ أو بدون مقدمات سابقة، بل كانت تتويجاً لإرادات محلية وإقليمية ودولية، تقاطعت في المشهد الصومالي كما نراه الآن. فبعد عقد كامل من جنون الحرب الأهلية الصومالية، وما صاحبها من مآسٍ وآلام وويلات، أعلنت جيبوتي عام 1999، مبادرة لجمع الفرقاء الصوماليين وإعادة بناء مؤسسات الدولة الصومالية. وأسفر مؤتمر "عرتا" للمصالحة الوطنية الصومالية عن تشكيل مؤسسات انتقالية، وانتخاب عبدالقاسم صلاد رئيساً مؤقتاً لولاية مدتها ثلاثة أعوام. لكن رغم الدعم الداخلي لحكومة صلاد وما نالته من اعتراف إقليمي ودولي، فقد فشلت في تحقيق الأمن ونزع أسلحة الميليشيات، واستعادة كيان الدولة ومؤسساتها، وإعادة إعمار البلاد، بل لم تستطع فرض سيطرتها على أزيد من شارع واحد في مقديشو، ليس ضمنه قصر الرئاسة (كان بيد حسين عيديد)، وبقيت أغلب وقتها خارج البلاد. كان أكبر تحدٍّ أفشل حكومة صلاد، هو موقف زعماء الحرب الذين قاطعوا مؤتمر "عرتا" ورفضوا الاعتراف بما انبثق عنه من صيغ؛ وأهمهم حسين عيديد والجنرال جامع محمد غالب والجنرال محمد سعيد حرث (مورجان)، إضافة إلى إقليمي "جمهورية أرض الصومال"، وولاية "بونت لاند"... جهات التقت في مواقفها مع كل من إثيوبيا وكينيا اللتين تعاملتا بحساسية شديدة مع التوجه العربي لحكومة صلاد، إذ اعتبرتاها مجرد فصيل كباقي الفصائل الأخرى! انتهت مرحلة "عرتا"، لتبدأ مرحلة أخرى مع "مؤتمر نيروبي" الذي منح، في أكتوبر 2004، زعماء الحرب ومؤيدي كينيا وإثيوبيا مقاليد العملية السياسية برمتها؛ إذ انتخب خلال المؤتمر عبدالله يوسف أحمد، رئيساً انتقالياً للبلاد، وكان قد أعلن في عام 1998 منطقته في شمال شرقي الصومال منطقة حكم ذاتي باسم "بونت لاند"، وترأسها حتى عام 2002. ثم قام الأخير باستدعاء علي محمد جيدي، وهو طبيب بيطري على صلة بالقيادة الإثيوبية، من مقر إقامته في أديس أبابا، ليترأس الحكومة الانتقالية. اتخذ إبراهيم وجيدي مدينة "جوهر" مقراً لهما بعض الوقت، ثم انتقلا إلى مدينة "بيداوا" (250 كلم جنوب مقديشو). وفي هذا الأثناء كانت قبضة زعماء الحرب، وهم أيضاً وزراء في الحكومة، تضعف على مناطق نفوذهم في العاصمة مقديشو. ففي يوليو 2004 تكون "اتحاد المحاكم الشرعية" من 11 محكمة، وسرعان ما استعاد الأمن في أغلب أحياء المدينة. ثم استطاعت "المحاكم" صيف العام الماضي إبعاد زعماء الحرب من مقديشو، لكن المخاوف من "نواياها الدينية"، ودلالة اختيارها للمتشدد حسن ظاهر عويس كرئيس لمجلسها الاستشاري، وما أثير حول علاقتها المحتملة بـ"القاعدة"... اعتبارات دفعت أطرافاً إقليمية ودولية إلى الانخراط مباشرة في اللعبة الصومالية الداخلية. ويتعلق الأمر في المقام الأول بالجارة الكبرى إثيوبيا؛ فتداخل الاعتبارات الأمنية والتاريخية في علاقة البلدين، "يبرر" التورط الإثيوبي في الشأن الصومالي. أعلنت جمهورية الصومال في الأول من يوليو 1960، وذلك باتحاد الصومالين الإيطالي والبريطاني، في انتظار أن يلحتق بهما كل من الصومال الفرنسي والصومال الغربي "أوغادين" و"المقاطعة الشمالية الشرقية". لكن الصومال الفرنسي استقل عام 1977 تحت اسم "جيبوتي"، وتحايلت بريطانيا لإلحاق "المقاطعة الشمالية الشرقية" بكينيا نهائياً، أما أوغادين فدارت عليه حرب ضروس (عامي 1977 و1978) بين الصومال وإثيوبيا، انتهت بهزيمة الأولى، مما ترك شعوراً عميقاً لا يمحي بالمرارة في نفوس الصوماليين إزاء إثيوبيا. الهزيمة أضرت أيضاً بهيبة نظام الرئيس سياد بري الذي استمد شرعيته من العمل على إعادة توحيد "الصومال الكبير"، كحلم لجميع مواطنيه. وبانفصال أرتيريا عن إثيوبيا عام 1991 أصبحت الأخيرة دولة حبيسة، فازدادت بالنسبة لها أهمية الصومال، كبلد يطل بشاطئين طويلين على المحيط الهندي وخليج عدن، لكن استراتيجيتها إزاءه تذبذبت في اتجاهين؛ فخلال تسعينيات القرن الماضي، وبعد سقوط نظام بري، تعاملت إثيوبيا مع ملف جارتها من منطلق أن وجود دولة صومالية متماسكة وقوية، قد يغري قادتها بمحاولة استعادة أوغادين. لكن بعد 11 سبتمبر 2001، أخذت أديس أبابا تدرك بأن استمرار الانهيار الصومالي سيدفع بمزيد من اللاجئين إلى أراضيها، كما يهدد اتحادها القومي الهش، والأخطر من ذلك أنه يجعل الصومال ذاته ساحة جاذبة لحركات وتنظيمات إرهابية. وعند هذا الهاجس الأخير التقت مخاوف كل من أديس أبابا وواشنطن، إلى حد يسمح بالقول إن الغزو الإثيوبي الحالي للصومال مثل عودة إلى استراتيجية "الحروب بالوكالة"، كما كانت تتّبعها القوى العظمى خلال مرحلة الحرب الباردة. وفي العمق من ذلك المشهد، هناك الصومال المتجانس قومياً ولغوياً ودينياً ومذهبياً، لكن المتشرذم قبلياً. وهو الواقع الذي أعطى للميليشيات المسلحة شروط بقائها، وطبع بطابعه الخاص "اتحاد المحاكم"... بل أخذت الصيغة القبلية للتسوية الصومالية منعطفاً جديداً مع الحكومة الحالية؛ فالرئيس يوسف ينتمي لقبيلة "الدارود"، وهي إحدى القبائل الكبرى في الشمال، بينما ينتمي جيدي إلى قبيلة "الهويا" التي تشكل أغلبية في مقديشو. لكن متى يخرج الصومال من ضيق الجغرافيا السياسية ومراراتها إلى رحابة التاريخ الحضاري وتحولاته؟! محمد ولد المنى