الخلدونية... لوصل الثقافة العربية بواقعها! ليست مجرد صدفة أن يقود نقد الفرضية التي ترى أسبقية الشعر على النثر، إلى القول بضرورة تأسيس الثقافة العربية الجديدة على "نثر عقلي يفهم العصر ويدرك حركة العالم ويستطيع محاورته..."، وصولاً إلى اعتبار نثر ابن خلدون وفكره مدخلاً لابد منه لهذا التأسيس الثقافي الجديد. تلك هي الأطروحة الأساسية لكتاب المفكر البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري، والذي صدر مؤخراً تحت عنوان "لقاء التاريخ بالعصر"، وفيه يعيب بشدة على ثقافة النهضة العربية في القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، كونها وقفت عند الإحياء الشعري والأدبي، وافتقدت نزعة التحليل الاجتماعي الذي يمثل جوهر الخلدونية، وجوهر مدارس علم الاجتماع الحديث وعلوم التاريخ والسياسة، مما أدى إلى "اغتراب كارثي عن حقيقة الواقع العالمي". لأجل ذلك، وفقاً للدكتور الأنصاري، لابد أن نوازن "ثقافة الشعر" بعقلانية النثر التي كان من روادها في تراثنا عبدالرحمن بن خلدون، هذا المفكر المسلم الذي "نُفي" هو وأمثاله من وعي المسلم المعاصر، وكأنهم خارجون عن الملة! ومن أول الدواعي التي يعددها المؤلف إلى "بذر الخلدونية بأبعادها المعاصرة في وعي الشعب، تأسيساً لثقافة العقل"، أن عطاء ابن خلدون هو أقرب إلى إبداعات عصر النهضة الأوروبية، أما ثانيها فهو أن اختلاط الكتابة النثرية العربية بمفهوم الشعر، جعل منها خليطاً هجيناً بين التصورات الذاتية التي يستحيل أن تؤسس لمعرفة عقلية. والثالث هو ضرورة أن "يقف ابن خلدون بنثره العقلي إلى جانب المتنبي بتدفقه الشعري، لتستقيم المعادلة في الوعي العربي". بينما يتجلى الدافع الرابع في الحاجة إلى إحياء ثقافي يؤسس لمدرسة تاريخية واجتماعية داخل جسم الثقافة العربية. أما الدافع الخامس فينبع من أن استيعاب العرب عقلياً لحقيقة تاريخهم، من منطلق النهج الخلدوني، سيعينهم ذهنياً على فهم حقيقة العالم المعاصر. لكن كيف يحدث ذلك، ونحن ندرك أن علم الاجتماع المعاصر تجاوز ابن خلدون بمسافة كبيرة في النظر إلى التاريخ وإلى المجتمع؟ هنا يجيب المؤلف بقوله إن الدراسات الأكاديمية العربية حول ابن خلدون ليست بالقليلة، لكن العقل العربي الراهن والسائد، على صعيد الوعي الشعبي العام، مازال بأشد الحاجة إلى النهج العقلي والعلمي الذي قام عليه كتاب "المقدمة" لابن خلدون، خاصة أن الواقع المجتمعي العربي لم يتجاوز إلى الآن النظرات الخلدونية في كثير من جوانبه؛ بما في ذلك تحذير ابن خلدون من دورة الانهيار التاريخي للأنظمة السياسية العربية التي تبدأ بالحزم والتقشف، ثم تنتهي أجيالها التالية تدريجياً إلى الترف المهلك، ودعوته إلى مراعاة قوانين التاريخ والاجتماع في حركات التغيير، إضافة لإدراكه -منذ زمنه- هشاشة المجتمع الحضري العربي سياسياً أمام قوى البوادي والأرياف التي تحتكر السلطة، ممثلة بذلك "أخطر العوائق أمام التطور الديمقراطي الحقيقي"! وفي انعطافة نقدية لاذعة، يقول الأنصاري إن كتابنا ومفكرينا العرب المعاصرين تناولوا كل شيء تقريباً، إلا خصائص الذات العربية، الاجتماعية والتاريخية، والقوانين التي تحكم سلوكها... لينتهي إلى أن المطلوب الآن هو تأسيس علم اجتماع عربي إسلامي "بدءاً من ابن خلدون". ويتساءل المؤلف: كيف السبيل إلى وصل ما انقطع بين الثقافة العربية المعاصرة، وبين واقعها بأبعاده الحقيقية؟ ليرد بأن "نزعة التحليل الاجتماعي النقدي" ذات الحس التاريخي الواقعي، هي "حلقة الوصل الضرورية التي نحتاجها لنقيم الجسر بين الثقافة العربية الجديدة وبين واقعها العربي". ثمة إذن حاجة ماسة إلى علم اجتماع يحلل الجذور التاريخية للأزمة العربية منذ عصر الانحطاط والى اليوم، في إطار الخصوصية العربية وقانونها العام، ذلك القانون الذي اكتشفه وحلله بدراية وعمق عبدالرحمن بن خلدون، لاسيما في إطار تناوله لظاهرة الصراع في التكوين العربي بين نزعتي الاستقرار الحضري والترحل الرعوي، كذلك تحليله للعلاقة بين العصبية القبلية والدعوة الدينية. وتعليقاً على ما انتهى إليه التحليل الأخير، يرى الأنصاري أن ابن خلدون هو أهم من يفك الاشتباك القائم بين العروبيين والإسلاميين، إذ أن القضية التي يعتركون حلوها قد "حلها الرجل قبلهم، بستة قرون، وأنه حلها لصالحهم جميعاً"! وفي ختام هذا العرض السريع، لابد من الإشارة سريعاً إلى ملحوظتين رئيسيتين؛ أولاهما أن فكرة المؤلف، والتي جعل منها حجر الزاوية لكتابه، أي مأخذه على أدب النهضة العربية كونه لم يحتفِ بنزعة التحليل الاجتماعي، هو مأخذ يكاد يكون في غير محله، إذ أن الخطاب الأدبي كفعالية جمالية ذات طبيعة تركيبية خاصة، يختلف بحكم ماهيته عن الخطاب السوسيولوجي، ولا يمكن أن نطلب من أحدهما أن يحل محل الآخر أو يؤدي وظيفته! أما الملحوظة الثانية فتتعلق بتطويع المؤلف لفكرة التلازم الذي أقامه ابن خلدون بين الدعوة الدينية والعصبية القبلية، ليحاول إسقاطه على الواقع العربي المعاصر، بقوله إن حركات الإسلام السياسي لا تجد اليوم مرْكَباً أفضل من إحياء النزعات العشائرية والقبلية والطائفية، بينما الواقع يبين أن هذه الحركات يتركز تأثيرها الأساسي داخل المدن والمراكز الحضرية الكبرى، وليس في البوادي والأرياف، حيث تتحصن التكوينات التقليدية للمجتمع، بأنماطها وعصورها المختلفة! محمد ولد المنى الكتاب: لقاء التاريخ بالعصر المؤلف: د. محمد جابر الأنصاري الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر تاريخ النشر: 2006