الحرية المطلقة وإكراهات المجتمع الكتاب الذي نعرضه هذا الأسبوع عنوانه "الحرية المعاصرة وقيود الحكومة"، لمؤلفه تشارلز فرايد، أستاذ القانون في جامعة هارفارد الأميركية. وهو إضافة جديدة تثري مجال العلوم السياسية في علاقته مع النظرية الاجتماعية التي يعتمدها المؤلف، والقائمة على الأفكار الليبرالية، وتحديداً على الحرية الفردية. بيد أن الكاتب الذي لا يخفي احتفاءه بالفردانية كأعلى درجات الحرية والخط الأحمر الذي لا يتعين تجاوزه من قبل الحكومة، يغضب المحافظين التقليديين، عندما لا يرى في الدعم الحكومي للخدمات الاجتماعية ورفع الضرائب، انتهاكاً للحريات الشخصية. وهو أيضاً يغضب اليساريين لإعلائه من قيمة الحرية الفردية على حساب المساواة الاقتصادية التي ينادون بها. وهكذا ينفرد الكاتب في تبني مواقف تختلف عن الاتجاهين الرئيسين؛ "اليمين" و"اليسار"، ويختط لنفسه طريقاً مغايراً يسعى إلى تسليط الضوء على بعض جوانبه في كتابه هذا. غير أن الكتاب أثار أيضاً حفيظة أصحاب الفكر اليساري في الولايات المتحدة، لدفاعه عما يصفه المؤلف بـ"حجر الأساس والحقيقة التي لا مراء فيها متمثلة في فردانية الشخص"، والتي تتصادم أحياناً مع الآليات الاجتماعية التي تضعها دولة الرفاه. والحقيقة أن المؤلف لم يخرج عن مسيرته الفكرية التي برز فيها كأحد المدافعين عن الحرية الشخصية للفرد باعتبارها القيمة الاجتماعية والسياسية الكبرى، وما يترتب عنها من تداعيات على المستويين السياسي والاقتصادي، وتشديده بالتالي على التعبيرات الواقعية التي تمثلها الحرية، سواء من خلال تبني الديمقراطية كنظام سياسي، أو تبني اقتصاد السوق كسياسة اقتصادية. ومع ذلك يتزحزح المؤلف قليلاً عن دفاعه المستميت عن الحرية الفردية وقدرتها على الوصول إلى الأهداف المثالية التي يريدها الليبراليون، ليضع مفهوم الحرية تحت المجهر ويكشف عن محدوديته في تحقيق سعادة البشر. لقد عرف عن تشارلز فرايد في مراحله الأولى تعصبه الشديد لمفهوم الحرية المطلقة، حيث كثيراً ما كان يتصادم مع طلبته المتأثرين بالأفكار الماركسية ومفاهيمها عن المساواة والعدل الاجتماعي. لكنه أصبح الآن أكثر انفتاحاً على المواقف المعارضة، وأكثر تفهماً لها بعدما أدرك الدور الإيجابي لتدخل الدولة لصالح الفقراء، وأن ذلك لا يمس بالضرورة الحرية الفردية للأشخاص. فالمؤلف يسعى إلى التأكيد على ضرورة تطوير الفرد لقدراته من خلال تمتعه بحرية تامة يكفلها له المجتمع والدولة بعيداً عن القيود التقليدية التي تكبل انطلاقه والتعبير عن ذاتيته. وهي الحرية التي لن تتأتى إلا عبر امتلاك حرية الاختيار واتخاذ القرارات وفقاً للقناعات الشخصية دون ضغوط من المجتمع، أو الدولة. إنها الحرية التي يرى المؤلف أسبقيتها على سواها من المفاهيم والمقولات الأخرى؛ مثل الفضيلة والمساواة والوطنية... والتي ليست في النهاية سوى تعبير مجازي لا يضاهي أبداً ما يصفه المؤلف بالحقيقة الوحيدة الماثلة أمامنا والمتمثلة في حريتنا الشخصية. يناقش "فرايد" بعض القضايا والنماذج الحية حتى يعطي لفكرته حول أولوية الحرية وتقدمها على غيرها من الأفكار، بُعداً واقعياً مثل تطرقه إلى قانون سنته مقاطعة (كيبيك الكندية) عام 1977، ويقضي بأن تكون الفرنسية اللغة الرسمية للمقاطعة، وقامت للتحقق من ذلك بإنشاء شرطة مكلفة بمراقبة استعمال اللغة في الأماكن العامة. إنه مثال يريد المؤلف من خلاله تسليط الضوء على التحول الذي قد يطرأ على النوايا الحسنة للدولة في الحفاظ على الموروث الثقافي باسم مقولات مثل القومية أو الوطنية، لتنتهي أخيراً بنتائج عكسية تمس الحرية الفردية وتحجر على حق التعبير. ويورد المؤلف أيضاً مثالاً آخر من ولاية "فيرمونت" الأميركية التي قررت منع سلسلة متاجر "وال مارت" من فتح فروع لها في مدن الولاية، خشية من التداعيات السلبية لهذه المتاجر الكبرى على النشاط الاقتصادي المحلي. وهو إجراء ينتقده المؤلف باعتباره يحد من حرية الاختيار المتأصلة في القيم الليبرالية. ومع ذلك يظل المؤلف محافظاً على الصعيد الاجتماعي، مقارنة بالليبراليين الآخرين؛ فهو على سبيل المثال لا يعتبر سن قانون يمنع الإجهاض أمراً مخالفاً للدستور الأميركي، وبالتالي لا يمس مباشرة الحرية الشخصية للفرد. بل يناقش المؤلف مسألة الملكية الفردية التي يضعها في مرتبة أدنى مقارنة مع حق التعبير والتفكير، لأنها حسب رأيه لا ترتبط بالحرية الجسدية، أو الفكرية للفرد. وهو أيضاً لا يرى مانعاً من تدخل الحكومة وتقديمها الدعم إلى الطبقات الفقيرة، لإدراكه أن الحرية الفردية قد لا تعني الكثير في مجتمع يعاني أفراده من مشكلات اقتصادية مستفحلة. وفي هذا الإطار يعتبر المؤلف أن مشاكل المساواة والفقر يمكن حلها من خلال الضرائب والدعم المالي الذي تستطيع الدولة توفيره للمواطنين من دون المس بحرياتهم الشخصية، وهو ما يثير غضب الأوساط المحافظة التي تنادي دائماً بتحجيم دور الدولة بصرف النظر عن أية اعتبارات أخرى. لكن المؤلف الذي يبدو متعصباً أشد التعصب للحرية الشخصية وحق الأفراد في اختيار مسارهم والتحكم في عقولهم وأجسادهم، بمنأى عن أي إكراه أو تدخل، مع ذلك فهو يعترف بأن لمفهوم الحرية نقطة ضعف كشفها مفكرو ما بعد الحداثة عندما أوضحوا أنها لا تعدو كونها مفهوماً وليست معطىً جاهزاً، ومن ثم يجب النظر إليها في سياق التجارب الشخصية والتاريخية للأفراد. فما نخاله حرية مُطلقة في اتخاذ القرارات ورسم المسارات الشخصية، ما هو في النهاية سوى تراكم للتاريخ العائلي والتجارب السابقة للفرد. زهير الكساب الكتاب: الحرية المعاصرة وقيود الحكومة المؤلف: ريتشارد فرايد الناشر: نورتون تاريخ النشر: 2006