بنطقه للشهادتين قبل أن يتدلى من حبل المشنقة، سجل صدام حسين نقطة، على الإنسان مهما علا واختال بقوته وتلبس حالة العظمة وأطل من شرفته ممسكاً بيد واحدة ببندقيته ليطلق رصاصها أمام الجماهير المحتشدة للهتاف بزعامته رمزاً لقواه الباطشة. النقطة العميقة أن الإنسان في نهاية المطاف، وليس بالضرورة في أوله، يدرك أنه لربه راجع مسلم بقدره. ولإرادته خاضع. ترى هل يتغير مسار التاريخ البشرى ليتحلى بالرحمة وبالحكمة لو أن هذا الإدراك صاحب الناس مع بداية المطاف؟ عندما وطأت قدماي بغداد مبكراً عام 1974 معاراً من جامعتي إلى جامعة العاصمة العراقية، كان الرئيس مازال محمد حسن البكر، غير أن العالم كان يتحدث عن صدام الرجل الثاني باعتباره رجل العراق القوى. لم أحتمل البقاء طويلاً وأنهيت إعارتي بعد شهور، فلقد تحالف ضدي طقس بغداد شديد البرودة في الشتاء وإحساس عام بالكآبة. في اليوم الثاني لوجودي، كتبت مقالاً أعبر فيه عن اندهاشي لوفرة سيارات المرسيدس المارة في شارع الرشيد وللعدد الهائل من الأطفال الحفاة الجالسين على الأرصفة يرتعدون من البرد وأمام كل منهم صندوق لمسح الأحذية، وحملته إلى مجلة "آفاق عربية". وعندما قرأه رئيس التحرير طمأنني إلى أن هؤلاء الأطفال ستحل مشكلتهم مع الزمن وحيى عواطفي الرومانسية طالباً أن أمزق المقال وأن أكتب للمجلة مقالاً عن تخصصي في الإسرائيليات. عندما حكيت ما حدث لصديق عراقي طمأنني أكثر بقوله إن هؤلاء الأطفال ليسوا عرباً! كان الدكتور محمد أنيس، أستاذ التاريخ، معاراً بدوره في بغداد وعندما تداولت معه نصحني أن انقل إعارتي إلى قطر عربي آخر مبيناً أنه اتخذ نفس القرار. بعد أن غادرت بغداد لم تكتب لي زيارتها مرة أخرى منذ ذلك العام وبقيت الصورة الوحيدة التي تذكرني بالمدينة ذلك المزيج من سيارات المرسيدس والأطفال الحفاة لتبدد في نفسي أية أوهام حول شعارات الثورة البعثية. كان صديقي الأستاذ أحمد عباس صالح عمدة للمصريين في بغداد بحكم أستاذيته الفكرية لصدام وبعض رفاقه عندما كانوا لاجئين في القاهرة. في السنوات الأخيرة عندما كنت أقابله وقد انتقل إلى العمل في صحيفة "الشرق الأوسط" في لندن، كان يصارحني بأنه تعلل للفرار من بغداد بمرض زوجته وضرورة علاجها في لندن بعد أن قام صدام بقتل أحد أقرب رفاقه وأصدقاء الأستاذ عباس صالح، الوزير عبدالجليل حسن، لخلاف في الرأي، مما أشعر الأستاذ بأن التجربة محتومة الفشل. مع ذلك، يرى آخرون في فلسطين أن لصدام أيادي بيضاء على القضية الفلسطينية، وهو أمر يعكس التناقض في زاوية رؤية الرجل. لقد جاء إعدام صدام في عيد الأضحى ليثير مشاعر كثير من المسلمين في مصر وفي العالم العربي، وأصبح الرجل في موته موضوع خلاف بين من فرحوا لإعدامه في العراق وبين من اعتبروا إعدامه في العيد رسالة استهزاء بمشاعرهم. ولا أظن أن هذا الخلاف سينتهي بين الفريقين لتباين زوايا الرؤية.