تعتبر الشيخوخة الطبيعية جانباً مهماً من جوانب المجتمع الإنساني، ليس فقط فيما تعكسه من تغيرات بيولوجية، وإنما أيضاً بما تمثله من منظومة خاصة من المفاهيم والأعراف والتقاليد الثقافية والمجتمعية. ففي العديد من المجتمعات، وخصوصاً المجتمعات الغربية والغنية، يتعرض الأشخاص مع تقدمهم في العمر، لضغوط ثقافية سلبية، تدفعهم إلى حالة من الإنكار والرفض التام للشيخوخة. هذه الضغوط تدفع بالأفراد لإنفاق كم هائل من الوقت والجهد والمال -وخصوصاً بين النساء- في محاولة يائسة لإبطاء العملية البيولوجية المصاحبة للتقدم في العمر، أو على الأقل إخفاء آثارها لأطول وقت ممكن. هذه المحاولات تتضمن ضمن ما تتضمن: صبغ الشعر، واستخدام أنواع باهظة الثمن من الكريمات المضادة للتجاعيد، واللجوء لحقن "البوتكس"، أو الخضوع لطائفة متنوعة من الجراحات والتدخلات الطبية. وتمتد الآثار الثقافية للتقدم في العمر، لتشمل أيضاً الحالة النفسية، فيما يعرف بأزمة منتصف العمر (mid-life crisis). ففي تلك المجتمعات، يرتبط مفهوم اللذة والمتعة -وربما الحياة كلها- بالشباب والصبا. ولذا يتعرض الكثير من رجال ونساء تلك المجتمعات لحالة من الاكتئاب والانقباض النفسي، مع وصولهم لمنتصف العمر، وخصوصاً مع تخطيهم لسن الأربعين. وتدفع هذه الحالة النفسية بهؤلاء، إلى السعي لضخ بعض من النضارة والتجديد في حياتهم، ليس فقط على الجانب الجسدي، وإنما أيضاً على الجانب المهني والاجتماعي، حيث كثيراً ما يلجأ هؤلاء إلى تغيير وظائفهم، أو سكنهم، أو ربما حتى الطلاق، أو القيام ببعض التصرفات الصبيانية المراهقة. وكما تشكل الشيخوخة مرحلة مهمة في حياة الأفراد، يعتبر التقدم في العمر أيضاً أحد أهم القوى المسؤولة عن تشكيل المجتمع ككل. وتأتي هذه الأهمية، بسبب الفروقات السلوكية والاقتصادية والطبية، بين الفئات العمرية المختلفة داخل المجتمع، حيث يتميز الشباب بالميل لارتكاب عدد أكبر من الجرائم، والتميز بالمطالبة الأقوى بالتغيرات السياسية والاجتماعية، مع قدرتهم على سرعة تطوير واستخدام التقنيات الحديثة، والحاجة الأكبر لخدمات تعليمية وترفيهية مقارنة بكبار السن. وفي نفس الوقت، يحتاج من تخطوا سن الشباب لأشكال مختلفة من الخدمات الصحية والاجتماعية، وتختلف متطلباتهم إجمالاً عن متطلبات صغار السن. وإن كان ميل الكبار إلى التصويت والمشاركة في العملية السياسية بشكل أكبر من الشباب، يمنح هذه الفئة العمرية وزناً سياسياً أكبر، مقارنة بالعدد النسبي لأصواتها الانتخابية. وإذا ما أضفنا إلى ذلك اتجاه بعض الحكومات لحرمان صغار السن من التصويت، مع غياب حملات التوعية السياسية في الكثير من الحالات لهذه الفئة العمرية، نجد أن كبار السن يلعبون إجمالاً دوراً أكبر في رسم وتخطيط الاتجاه المستقبلي لمجتمعاتهم. وبخلاف الجانب النفسي، لا يعترف الطب بأزمة منتصف العمر، ولا بسن الأربعين كنقطة تحول رئيسية في الحالة الصحية البيولوجية للفرد. ففي المفهوم الطبي، تبدأ التغيرات المصاحبة للتقدم في العمر في مرحلة مبكرة جداً من الحياة، وتظل مستمرة حتى آخر لحظات العمر. ومن هذا المفهوم، يتم تقسيم الشيخوخة إلى نوعين هما: شيخوخة الخلية، وشيخوخة الكائن الحي ككل. حيث تعرف شيخوخة الخلية على أنها انتقاص في قدرة الخلية على الانقسام والتجديد، أما شيخوخة الكائن الحي فتظهر في شكل تدهور قدرته إجمالاً على الاستجابة للضغوط البيئية والفسيولوجية، مع زيادة تعرض أنسجته وأعضائه للأمراض. هذا التعريف، لا يعني بالضرورة أن الشيخوخة لابد وأن تترافق بالأمراض والعلل. حيث أصبح البعض يروجون مؤخراً لمفهوم "الشيخوخة الموفقة" (successful Aging)، وهو المفهوم الذي ترسخ في الوعي العام بعد مقالة شهيرة نشرت عام 1987 لكاتبين متخصصين في علم الشيخوخة (Rowe and Kahn). في هذا المقال أوضح الكاتبان أن الأبحاث التي كانت تجرى على الشيخوخة، مالت إلى تضخيم العلاقة بين بعض الأمراض مثل السكري وهشاشة العظام، وبين التقدم في العمر. فعلى رغم أن الشيخوخة تترافق غالباً بالعديد من الأمراض، مثل زيادة الوزن، وداء السكري، والتهاب المفاصل، وهشاشة العظام، والأمراض السرطانية، وأمراض القلب والشرايين، إلا أنه ليس قدراً محتوماً أن يصاب من تقدم في العمر بأي من هذه الأمراض. ولذا ينظر علماء الشيخوخة البيولوجية إلى الأمراض المرافقة للشيخوخة، على أنها ليست عملية طبيعية، بل مجرد حالات مرضية يمكن علاج أسبابها والتخفيف من أعراضها. ويأمل هؤلاء في أن يحمل المستقبل معه فهماً أكثر لطبيعة العمليات البيولوجية، التي تؤدي وتترافق وتنتهي بالشيخوخة، وهو ما سيتيح الفرصة للتدخل العلمي ووقف مسيرة تلك العمليات، وإصلاح الضرر والتلف الناتجين عنها، أو حتى عكسهما. بينما يؤمن آخرون بأن أفضل وسيلة للتعامل مع الأمراض المرافقة للشيخوخة، تبدأ بالوقاية منها، باتباع أساليب وعادات صحية جيدة في المراحل المبكرة من العمر. ويضرب هؤلاء مثالاً بمرض السكري، الذي يصيب عدداً لا بأس به من كبار السن. فمثل هذا المرض يمكن تجنب الإصابة به بقدر كبير، من خلال اتباع عادات صحية سليمة في سنوات الشباب، مثل الاعتماد على غذاء صحي متوازن، وممارسة الرياضة بشكل منتظم، لتجنب زيادة الوزن التي تعتبر أهم عوامل الخطر خلف الإصابة بالسكري. وهو ما يعني أنه على رغم أن التقدم في العمر قدَر محتوم، إلا أنه ليس بالضرورة أن يترافق تقدم العمر مع الكثير من الإعاقات والأمراض، وهو الهدف الذي يمكن تحقيقه من خلال الممارسات الصحية الجيدة، وقبل أن يتخطى الفرد الخط الوهمي الفاصل بين النصف الأول والنصف الثاني من العمر. د. أكمل عبد الحكيم