إذا كنا حاولنا من قبل أن نحلل أزمة السلطة في العالم العربي، فإنه يبدو من الأهمية بمكان أن ندرس بشكل نقدي الأزمة الراهنة للسلطة في الولايات المتحدة الأميركية. وتبدو أهمية المقارنة بين النظم السياسية العربية والنظام السياسي الأميركي من أن العالم العربي في الإدراك الغربي يزخر بصور شتى من النظم الشمولية والسلطوية، في حين أن النظام السياسي الأميركي في نظر نفسه هو النظام الديمقراطي الأمثل! ولعل مما يكشف عن هذا الإدراك الزائف أن الولايات المتحدة الأميركية تقود، وخصوصاً بعد أحداث سبتمبر 2001، حملة قوية لإدخال الديمقراطية إلى العالم العربي، والقضاء على شموليته وسلطويته. ألم تزعم التصريحات الأميركية أن الولايات المتحدة لم تغزُ العراق عسكرياً إلا للقضاء على النظام الديكتاتوري العراقي وإقامة نظام سياسي ديمقراطي مثالي يمكن أن يحتذيه باقي النظم السياسية العربية؟ ليس ذلك فقط بل لقد قامت الولايات المتحدة الأميركية بممارسة ضغوط سياسية عنيفة ضد بعض الدول العربية لتجبرها إجباراً على التحول الديمقراطي. وخصصت ميزانيات كبيرة للدعم المالي لمنظمات المجتمع المدني العربي التي ترفع لواء الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، مما أدى في الواقع إلى شيوع الفساد في هذه المنظمات في غيبة كاملة للشفافية والمحاسبة. ولم تتورع الولايات المتحدة الأميركية عن ممارسة دور المشرِّع العالمي في مجال حقوق الإنسان وحرية الأديان. فقد وافق الكونجرس على تشريع يكفل لوزارة الخارجية الأميركية إصدار تقرير سنوي عن حالة احترام حقوق الإنسان وحرية الأديان في العالم، ترصد فيه مخالفات الدول، وترفع التوصيات إلى رئيس الجمهورية لإنزال العقوبات على هذه الدول! غير أن الممارسة الديمقراطية الأميركية تمر بمأزق حقيقي خصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. فقد تعجلت الإدارة الأميركية بقيادة الرئيس بوش وأركان إدارته نائب الرئيس تشيني ووزير الدفاع رامسفيلد وعدد آخر من أعضاء "عصابة" المحافظين الجدد، في إعلان الحرب على الإرهاب بصورة لا سابقة لها من حيث الافتقار إلى إصدار القرارات العقلانية في أمور الحرب. وهكذا تسرع الرئيس بوش في رفع شعاره الشهير "من ليس معنا فهو ضدنا" وكان هذا الشعار أول إنذار بأن أميركا قررت ممارسة الإرهاب المعنوي والسياسي ضد الدول التي قد تعارض سياستها. وأعقب إعلان الحرب على الإرهاب التي لا يحدها مكان ولا زمان، غزو أفغانستان على أساس أن نظام "طالبان" قد آوى تنظيم "القاعدة" بقيادة ابن لادن. وانتهت هذه الحرب القصيرة باحتلال أفغانستان بعد سقوط نظام "طالبان". ولعل هذا في ذاته الذي شجع إدارة الرئيس بوش على أن تخطط على عجل للغزو العسكري للعراق. ومن المعروف أن خطة غزو العراق قدمها "المحافظون الجدد" إلى الرئيس كلينتون مطالبين بتنفيذها غير أنه رفض. وحين جاء "المحافظون الجدد" للحكم شرعوا في تنفيذ خطتهم القديمة، وأشاعوا أنهم سيغزون العراق عسكرياً ليس لتحقيق مصالح أميركية في النفط أو في غيره معاذ الله، ولكن لأن العراق أولاً نظام ديكتاتوري لابد من إسقاطه، ولأنه ثانياً يمتلك أسلحة دمار شامل. ولا نريد إعادة سرد الوقائع الخاصة بمحاولة إرغام مجلس الأمن على إصدار قرار دولي بالحرب ضد العراق، ولا بوقائع الحرب ذاتها وما ترتب عليها. الذي يهمنا في الواقع أن نبرزه، أن إدارة الرئيس بوش في قراراتها الخاصة بالحرب على الإرهاب وما تلاها خالفت القواعد الديمقراطية التي تتغنى بها ليل نهار، في مخالفات جسيمة، أدت في النهاية إلى ممارسة السلطة السياسية في المجتمع الأميركي بطريقة فاشستية مناقضة تماماً للديمقراطية. لقد خدعت السلطة الأميركية كلاً من الكونجرس الأميركي بل والشعب الأميركي ذاته، بالأسباب الملفَّقة والكاذبة المبررة للحرب ضد العراق، وقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن العراق لا يمتلك أسلحة دمار شامل، بالرغم من أن كولن باول وزير الخارجية الأميركية السابق عرض أدلة مزيفة في جلسة تاريخية لمجلس الأمن، ثبت بعد ذلك أنه لا أساس لها. ولتدعيم قراراتها غير الديمقراطية أصدرت إدارة بوش "قانون الوطني" الذي من شأنه أن يخرس كافة الألسنة المعارضة للحرب، وأصدرت بعد ذلك عدة تشريعات تضرب الديمقراطية وسيادة القانون في الصميم. فقد أصدرت تشريعاً يبيح لها محاكمة الإرهابيين أمام محاكم عسكرية وفي جلسات سرية وبدون محامين للدفاع عن المتهمين، وهذه المحاكم لها حق الحكم بالإعدام. ومن ناحية أخرى أصدرت تشريعاً يبيح لها مراقبة المواطنين الأميركيين العاديين والتصنت على مكالماتهم التليفونية ومراقبة تحركاتهم. وأخيرا أصدرت تشريعاً لا سابقة له في الدول الديمقراطية المتحضرة يبيح للسلطات القضائية الأميركية أن تستخدم التعذيب لاستنطاق المتهمين بالإرهاب! وربما أرادت السلطة الأميركية أن تقلد إسرائيل التي سمحت المحكمة العليا فيها بتعذيب الفلسطينيين المتهمين بـ"الإرهاب" لاستنطاقهم. وقد تواترت تصريحات الرئيس بوش منذ غزو العراق لتؤكد أن الولايات المتحدة انتصرت ونجحت في إقامة نظام ديمقراطي عراقي، غير أن تصاعد المقاومة من جانب، واشتعال الصراع الطائفي من جانب آخر، وتساقط المئات من ضباط وجنود القوات المسلحة الأميركية من جانب ثالث، كشف الحقيقة العارية أمام الشعب الأميركي، وفند حجج المدافعين عن الحرب. وقد حدث في الوقت الراهن تحول ملحوظ في الميديا الأميركية، حيث انقلب عديد من الإعلاميين الأميركيين من أنصار بوش والحرب على الإدارة الأميركية ذاتها، متهمين إياها باختطاف النظام الديمقراطي الأميركي، واتباع ممارسات غير ديمقراطية أدت إلى خسائر بشرية ومادية ومعنوية للولايات المتحدة الأميركية لا حدود لها، إلى درجة أن "توماس فريدمان" الكاتب الصحفي الأميركي الشهير، الذي كان من أنصار الحرب على العراق، كتب مقالة قرر فيها أن إدارة الرئيس بوش حولت الولايات المتحدة إلى جمهورية من جمهوريات الموز في أميركا اللاتينية! وكانت نتيجة الانتخابات الأميركية التي اكتسح فيها "الديمقراطيون" الجمهوريين وانتزعوا الغالبية في الكونجرس، أكبر دليل على انقلاب الرأي العام الأميركي ضد الإدارة غير الديمقراطية للرئيس بوش. أما "تقرير بيكر- هاملتون" فقد سدد الضربة القاضية لبوش وإدارته. ومعنى ذلك وقوع السلطة الأميركية في مأزق تاريخي يتمثل في الممارسة الفاشية في ظل نظام ديمقراطي! ويمكن القول إن النتيجة الرئيسية التي خلصنا إليها وبالذات في مجال توصيف المأزق التاريخي للسلطة الأميركية الراهنة في كونها تمارس في الواقع ممارسات فاشستية في إطار نظام ديمقراطي، لا ينبغي أن تبعث على الدهشة. وذلك لأن عدداً من كبار المؤرخين والمفكرين الأميركيين سبق لهم في إطار سرد تاريخ نشأة وتطور الولايات المتحدة الأميركية أن أكدوا أن هذه الدولة التي ترفع شعار الديمقراطية قامت على أساس الغزو المسلح لأقاليم شتى. هكذا قرر المؤرخ الأميركي الكبير "هوارد زين" في كتابه الشهير "تاريخ شعبي للولايات المتحدة الأميركية". حيث يحكي التاريخ الأميركي من زاوية المقهورين من أبناء الشعوب الذين خضعوا للغزو الأميركي في فترات تاريخية متعددة. ومن ناحية أخرى أصدر الروائي والكاتب الأميركي الشهير "جور فيدال" كتاباً بعد11 سبتمبر بعنوان: "حروب دائمة من أجل سلام دائم" قرر فيه أن فلسفة الدولة الأميركية هي شن الحرب بانتظام لتحقيق السلام الدائم كما يزعم زعماؤها السياسيون. ولعل أبلغ دليل على ذلك أن إدارة الرئيس بوش نشرت قائمة بأسماء دول "محور الشر" فيها إيران وكوريا الشمالية وسوريا، وذلك حتى تواصل عدوانها على هذه الدول بعد حربها ضد العراق. وإن كان قد خاب مسعاها نتيجة المأزق التاريخي لها في العراق بعد أن هزمتها المقاومة العراقية هزيمة كاملة، وبعد أن نجحت كوريا الشمالية في تفجيرها الذري تحدياً للإدارة الأميركية. ونختم بالإشارة إلى التوصيف البالغ الذكاء الذي صاغه الفيلسوف الشهير هربرت ماركيوز للمجتمع الأميركي بأنه مجتمع يقوم على أساس "التسامح القمعي" Repressive Tolerance بمعنى أن الحرية السياسية والفكرية تمارس فيه في حدود معينة وإلا تعرض المخالفون إلى قمع شديد مباشر أو غير مباشر. ولعل كل هذه السمات للنظام السياسي الأميركي الديمقراطي المزعوم الذي قام بعديد من المؤامرات والانقلابات في عديد من قارات العالم ضد نظم سياسية ديمقراطية، وأبرزها حكم الرئيس سلفادور ألليندي في تشيلي وغيره، قد لخصها عالم السياسة الأميركي "بيتر جروس" في كتابه الذي تم التعتيم الإعلامي عليه: "الفاشية الودودة"Friendly Fashism . بعبارة أخرى هو نظام يدعو خطابه السياسي إلى الديمقراطية وإن كان في الواقع هو يمارس الفاشية بصور متعددة في الداخل والخارج على السواء!