"يوزن مداد العلماء يوم القيامة بدماء الشهداء"، قال ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. بماذا يوزن مداد شهداء العلم في العراق؟ الحارث عبدالحميد، أستاذ ورئيس قسم الصحة النفسية في جامعة بغداد اغتيل أمام زوجته في مدخل جامعة بغداد، وعصام الراوي، أستاذ الجيولوجيا، ورئيس رابطة التدريسيين العراقيين، اغتيل قرب منزله في بغداد، وجاسم الأسدي، أستاذ وعميد كلية الإدارة والاقتصاد في جامعة بغداد، اغتيل مع عائلته أثناء قيادته سيارته، ونجدت قاسم الصالح، أمين مجلس وزارة التعليم، عُثر على جثته في معهد الطب العدلي، بعد مضي نحو شهر على اختطافه، وحسن أحمد، أستاذ قسم اللغة العربية في كلية التربية في جامعة ديالى اغتيل مع أربعة أساتذة في كلية الزراعة. هؤلاء آخر شهداء العلم في العراق، والذين تجاوز عددهم المائتين. أسماؤهم وعناوين وظائفهم وأصولهم العرقية والمذهبية، تؤكد عبث التأويلات عن القائمين بالاغتيالات. فقائمة المتهمين طويلة "تتضمن السُّنة، والشيعة، والإسلاميين المتطرفين، والأميركيين، والإيرانيين، والإسرائيليين...". ذكر ذلك لصحيفة "نيويورك تايمز" أساتذة عراقيون شاركوا في مؤتمر حول الموضوع عقدته أخيراً "رابطة دراسات الشرق الأوسط" في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة. وقالت الصحيفة إن الأكاديميين القادمين من العراق يُحمّلون الاحتلال الأميركي المسؤولية الرئيسية، ونقلت عن طاهر البّكاء الذي شغل منصب وزير التعليم العالي والبحث العلمي بعد الاحتلال قوله "إن مشكلة العراق أكبر من أن أعبِّر عنها". وقال البّكاء الذي كان رئيساً لجامعة المستنصرية للفترة بين عامي 2003 و2004، إنه لم يحصل على أي تمويل إضافي للجامعة منذ الاحتلال، وقال إن "البنايات التي دمرتها حرب الخليج الأولى عام 1991 أصلحت خلال شهرين تحت نظام صدام، لكن الأميركيين لم يصلحوا شيئاً، وعندما يُهدَّدُ الأساتذة أو يُقتلون لا تجري أبداً أي تحقيقات". واختتمت الصحيفة الأميركية تقريرها بوصف قدمه أستاذ عراقي في الأدب الإنجليزي، للأوضاع الحالية في بغداد: "جثث القتلى المشوهة تطفو في نهر دجلة الجميل، العصافير فرَّت، وطيور الحمام ميتة، والحرم الجامعي تتحكم فيه غابة من العمائم". وكالكابوس تشلُّ مذبحةُ علماءِ العراق المجتمع العلمي العربي والعالمي. العراقيون يلوِّحون بأيديهم، مستنجدين، فيما زملاؤهم حول العالم يرفعون الأكف دعاءً لهم بالنجاة. تكرر هذا المشهد في مؤتمر "المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا"، الذي يُعتبر أوسع مناسبة للقاء العلماء العرب في الداخل والخارج. وقد اختُتم المؤتمر الذي عُقد في العاصمة السورية دمشق، بإعلان قصير عبَّر فيه المؤتمرون عن "بالغ أسفهم لما يتعرض له العلماء العراقيون من تصفيات جسدية وحالات تعسفية دفعت بالعديد منهم إلى ترك وطنهم واللجوء إلى دول أخرى، مما يتسبب بخسارة فادحة للمجتمع العلمي العراقي". وعبّر المؤتمرون "عن التضامن المطلق مع الأشقاء العلماء العراقيين". وانتهى المؤتمر من دون الإعلان عن أسماء قتلى علماء العراق، وبينهم الحارث عبدالحميد، الذي كان يتهيأ لحضور مؤتمر دمشق، واسمه وعنوان محاضرته مذكوران في جدول الأعمال. لم تُعلن حتى أسماء علماء العراق المشاركين في المؤتمر، ويزيد عددهم على المئة، ولم يُسمح لأجهزة الإعلام بحضور جلسة مغلقة عُُقِدت لهم، خشية على حياتهم عند العودة إلى العراق. واعتذَرَ قادة المجتمع العلمي العربي والدولي عن عجزهم في توفير ملاذ آمن لهم داخل العراق، أو فرص عمل في البلدان الأخرى. "علماء العراق... كالأشجار تموتُ واقفة". ذكر ذلك عالم عراقي جالس قربي في المؤتمر. حين التفتُ نحوه أدركتُ أنه كان يدندن لنفسه بالعبارة التي تناهت إلى سمعي، كحداء البدو في مكان ناءٍ في أعماق الصحراء. وهل هناك صحراء أبعد من المختبرات التي أجريت فيها 173 بحثاً قدمها العراقيون في المؤتمر؟ وكيف خاض باحث جامعي مغامرة إجراء مسوح ميدانية لأجل "قياس الاحتياجات التدريبية للعاملين بالإرشاد الزراعي في محافظتي الموصل ودهوك"؟ وما الذي دفع فريق "دراسة إنتاجية نبات حشيشة الليمون تحت ظرف منطقة سامراء"، التي تُعتبر من أكثر المناطق اضطراباً؟ برهنت الدراسة الأخيرة على نجاح زراعة حشيشة الليمون، المستخدمة في صناعة الأدوية، وأوصت بتوطينها في سامراء. وكيف تدبَّرت باحثة عراقية في التكنولوجيا المتقدمة، التقاط صورة تخفي وجهها، لكنها تكشف عن كفها المغلفة بقفاز "إنسان آلي" (روبوت)؟ الصورة مرفقة ببحثها عن تطوير "كفّ روبوتية" للاستخدام في تجارب مختبرية للتحكم من بعيد بأجهزة خارج المركبة الفضائية، أو تشغيل غواصة في أعماق البحر، أو فحص أنابيب النفط من الداخل، أو إدارة عمليات الإنقاذ من بعيد في مواقع الكوارث. وهل تفسر روح النكتة العراقية "السوداء" تجارب عالم زراعة عراقي حول "تأثير الرش بمنظمات النمو على زيادة العُقَد في ثمار الباذنجان المزروعة في البيوت البلاستيكية غير المدفأة"؟ العراقيون يعتقدون أن أكل الباذنجان "يُسخِّن" العقل، ويستخدمون عبارة "وَرَّدْ الباذنجان" للسخرية ممن يفقد صوابه! وهل حب الوطن يدفع باحثين عراقيين للمخاطرة بحياتهم في بحوث استراتيجية، عن أوضاع نهري دجلة والفرات؟ علماءُ من جامعة الموصل درسوا أوضاع النهرين عند دخولهما الأراضي العراقية، فيما بحث أستاذ في جامعة بغداد "الأوضاع الراهنة لنوعية مياه نهري الفرات ودجلة داخل الأراضي العراقية". تدلّ تواريخ البحوث على أن معظمها أجري قبل الانهيار الأمني الحالي، الذي أوقف تماماً كل نشاط بحثي، وكثير منها في ظروف الحظر قبل الاحتلال. وتثير الدهشة غزارة بحوث بعض نساء العلم العراقيات وحيويتها التي تبدو وكأنها تعبّر عن غريزة البقاء الأنثوية الخالدة. كتاب ملخصات مؤتمر دمشق ضمّ خمسة أوراق لعالمة فيزياء عراقية شابة تعمل حالياً في مركز بحوث تابع لإحدى جامعات الخليج. تتنوع مواضيع الأوراق ما بين "استخدام الطاقة الشمسية لتحلية مياه البحر"، و"أشباه الموصلات"، و"واقع البحث العلمي في الدول العربية- المعوّقات والحلول". وهل خطر في ذهن الحارث عبدالحميد أن بحثه الذي أرسله إلى مؤتمر دمشق، سيكون مناسبة لتأبينه. قبل اغتياله بثلاثة أيام تحدث في قناة "الجزيرة" الإنجليزية عن اغتيال الأطباء في العراق. الوقائع الفظيعة، التي عرضها، دفعت مُعِّد البرنامج، وهو طبيب عراقي إلى إخفاء اسمه. واعتقدتُ آنذاك أن الحارث عبدالحميد يتحدث بهذه الجرأة من مكان آمن خارج العراق، وطمأنتُ نفسي بأن مافيا قتل العلماء في العراق لا تعرف الإنجليزية. لكني صُعقت عندما تلقيت ليلة سفري إلى دمشق نبأ اغتياله. جاء ذلك في رسالة بالبريد الإلكتروني من نزيرة داخل، وهي عالمة عراقية في الإحصاء الطبي أعدّت مع الحارث بحثاً عن ظاهرة تَعدُّد العلل النفسية التي سببتها الحرب والاحتلال لأطفال العراق. تضمنت رسالة الدكتورة داخل، والتي عملت في عدد من أرقى مؤسسات البحث الطبي والدوائي في بريطانيا، سطوراً من أدب التأبين الرفيع، تحدثت فيها عن "الرؤيا العلمية للبروفيسور عبدالحميد"، وذكرت أن "عمله العلمي الجيد غيّر حياة كثير من الناس"، وأن "منجزاته العلمية لن تُنسى أبداً".