كانت وفاة "أوجوستو بينوشيه"، الديكتاتور التشيلي، الذي قتلت وعذبت شرطته السرية الآلاف من المعارضين السياسيين، بمثابة مسك الختام لعام 2006 باعتباره من الأعوام الذي شهد ملاحقة أكبر عدد من مجرمي الحرب ومنتهكي حقوق الإنسان منذ محاكمة "نورمبرج" الشهيرة لعام 1946. ومع ذلك مازال كتاب الجرائم المرتكبة ضد حقوق الإنسان مفتوحاً تضاف إليه انتهاكات أكبر دون أن توضع معايير جديدة للتعامل مع الطبيعة الجديدة لتلك الجرائم على الساحة الدولية. فعلى غرار ما تشهده الانتهاكات الخطيرة التي تمس حقوق الإنسان من تطور في طبيعتها يتعين في المقابل مواكبة ذلك عبر تطوير رد الفعل الدولي إزاءها ووضع الآليات الكفيلة بمراقبة الجرائم التي مازالت ترتكب في أنحاء من العالم، ثم تقديم المسؤولين عنها إلى العدالة. وفي هذا الإطار يتعين توفير كافة الموارد اللازمة، المالية منها والبشرية، للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بهولندا للاضطلاع بالأعباء الملقاة على عاتقها والبت في القضايا المعقدة المعروضة أمامها. لكن الاهتمام الأكبر يجب أن يذهب إلى المحاكم الإقليمية والمحلية التي تحتاج إلى دعم أكبر لدورها الكبير في ملاحقة جرائم الحرب، ولقربها أيضاًِ من مواقع الحدث ومعرفتها بالتعقيدات المحلية والإقليمية، وهو ما يجعل عملها أكثر فعالية من المحاكم الدولية. وإذا كانت السنة الأخيرة قد عرفت نجاحاً كبيراً في تقديم مجرمي الحرب إلى المحاكم لنيل ما يستحقونه من عقاب فإنه يتعين في الوقت الراهن تزخيم هذا الجهد والبناء عليه في ظل التعقيد الذي باتت تنطوي عليه الجرائم الحالية. وهو تعقيد كان غائباً نسبياً في الجرائم السابقة التي نظرت فيها المحكمة الجنائية الدولية، أو تلك التي بتت فيها المحاكم الإقليمية، أو المحلية. فقد واجه "بينوشيه" قبيل وفاته اتهامات واضحة لا يلفها لبس تعلقت بالجرائم التي اقترفتها أجهزته الأمنية وذهب ضحيتها أكثر من 3197 قتيلا، وتعذيب أكثر من 23 ألف مواطن. إلا أن القدر لم يمهله فمات بعدما رفعت المحكمة العليا في التشيلي الحصانة التي كانت تحميه من المتابعة القضائية. وعلى غرار "بينوشيه" توفى "سلوبودان ميلوسوفيتش" قبل عام فقط من انتهاء إجراءات محاكمته في لاهاي بعدما وُجهت له تهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية تفوق في حجمها ما ارتكبه "بينوشيه" والتي وصل عدد ضحاياها 200 ألف من مواطني يوغوسلافيا السابقة. وخلافاً للدكتاتوريين السابقين عاش صدام حسين ليسمع النطق بالحكم في الجرائم التي اقترفها نظامه، والتي كانت واضحة في طبيعتها مثلها في ذلك مثل جرائم "ميلوسوفيتش" و"بينوشيه". فقد أصدرت المحكمة العراقية حكمها ضد صدام حسين الذي كان يترأس حزب "البعث" خلال فترة حكمه والمسؤول الأول عن الجرائم التي ارتكبت في تلك المرحلة المظلمة من تاريخ العراق في السادس من شهر نوفمبر الماضي ويقضي بإعدامه شنقاً لتورطه في قتل 148 من أهالي قرية الدجيل عام 1982. ورغم لجوء دفاع صدام حسن إلى محكمة التمييز لاستئناف الحكم، فإن المحكمة في النهاية ثبتت الحكم ليتم تنفيذه فجر السبت الماضي. وفي 2006 تم أيضاً القبض على الديكتاتور الليبيري السابق "تشارلز تايلور" ورُحل إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي ليمثل أمام العدالة. وبالإضافة إلى ذلك تمت إدانة الزعيم الإثيوبي السابق "مينجوستو هيلا مريم"، ولو غيابيا، نظير الجرائم التي ارتكبها في حق شعبه طيلة الاثنتي عشرة سنة التي قضاها في الحكم. ولا شك أن تقديم قادة مثل "بينوشيه" و"ميلوسوفيتش" وصدام حسين إلى العدالة لنيل جزائهم قد يعطي الانطباع للمدافعين عن حقوق الإنسان أن العالم بصدد تحقيق خطوات مهمة في اتجاه ملاحقة تلك الجرائم في أفق الحد منها مستقبلا، إلا أن هؤلاء القادة الذين أدينوا وصدرت بحقهم أحكام قضائية اقترفوا جرائم حدثت في الماضي، فماذا عن تلك الأكثر تعقيداً التي يصعب تحديدها؟ فقد استطاعت بعض الحكومات إيجاد طريقة لفك الارتباط بين مسؤوليتهم الشخصية والأفراد الذين تورطوا مباشرة في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، لا سيما في البلدان الفقيرة. ففي السودان مثلا لا يكل المسؤولون الحكوميون من نفي علاقتهم بميليشيات "الجنجويد" التي قتلت المئات في إقليم دارفور وتسببت في نزوح مئات الآلاف من منازلهم، وذلك رغم الأدلة والقرائن التي تشير إلى تورط جهات حكومية في دعم ميليشيا "الجنجويد". وفي مثال آخر وتحديداً في كولومبيا لم تتمكن الحكومة من إحكام السيطرة على المتمردين إلا بعد وصول "ألفارو أوريبي" إلى الرئاسة وتشكيله لجيش قوي. فقد كانت الحكومات الكولومبية تعتمد في السابق على ميليشيات عسكرية تحولت مهمتها مع مرور الوقت من مطاردة المتمردين إلى ارتكاب أفظع الجرائم في حق المدنيين من دون أن تعترف الحكومات بأي صلة تربطها بها. ولكن يبقى الأخطر من التباس العلاقة بين الجهات الحكومية والميليشيات التي ترتكب الجرائم هو ما يحصل في الدول الفاشلة التي تشهد انتهاكات خطيرة ضد حقوق الإنسان تقوم بها الفصائل المتصارعة والمنفلتة من أية ضوابط، بحيث يصعب إرجاعها إلى طرف معين، أو حتى تحديد المسؤوليات. وفي هذا السياق ذكر تقرير بريطاني أنه خلال العقد والنصف الأخير من الصراع في الصومال بين الفصائل المتناحرة، شهدت البلاد جرائم متعددة وانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان لم يستطع أي طرف دولي في ملاحقة المسؤولين عنها. وإلى حد الآن مازالت تتردد بعض الأصداء حول الدور الذي لعبه بعض رجال الدين والسياسيين في التحريض على أعمال القتل والمجازر التي شهدتها رواندا في 1994، وامتدت الاتهامات لتشمل أحد المغنين المشهورين في رواندا الذي كانت أغانيه تنضح بعبارات الكراهية وتشجع مستمعيه على القتل. وإلى جانب التحديات التي تنشأ في الدول الفقيرة هناك أيضا تلك المرتبطة بالدول الغنية مثل رفض الولايات المتحدة التصديق على محكمة الجنايات الدولية. جون رودين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عضو هيئة التدريس في جامعة تكساس الأميركية مايكل كيرلين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مستشار سابق في مجال التنمية برواندا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"