موقف فريد وعجيب قبيل وبعد إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين: شعر عشرات الملايين من السنة العرب بالإهانة والحزن الشديد. وشعر بعض آخر من أبناء الأمة، وأكثرهم من الشيعة فضلا عن نسبة ليست قليلة من المثقفين، بالراحة واحتفلوا بالحدث كأنه نصر مؤزر! ماذا يحدث هنا؟ كيف يمكن أن نكون أمة واحدة ومشاعرنا متضاربة ومتناقضة على هذا النحو، نحو حدث تاريخي مؤثر؟ الواقع أن العلماء يختلفون حول تعريف الأمة وماذا تعني. ولكنهم جميعاً ينطلقون من أن الأمة هي كتلة متجانسة نسبياً من المشاعر وحس الإنتماء المتبادل. فإن طبقنا هذا الفهم على حدث بهذه الضخامة، لما أمكننا أن نؤكد أننا أمة واحدة. وعلى نفس القدر من الأهمية، يعتقد العلماء أن وحدة الثقافة هي القاعدة الذاتية الأكيدة لتشكل الأمم. وأحد أهم وظائف الثقافة بالمعنى الواسع للكلمة هي إضفاء المعاني على العلامات والرموز والأحداث. فإن اختلفت أمة في تعيين دلالة ومعنى إعدام صدام- حيث يعدها البعض عدالة ويعدها الآخرون انتقاماً أسود وإهانة- فأقل ما يقال هو أن هذه الأمة متصدعة ومنشقة على ذاتها. ولنترك المشاعر جانباً لنبحث في دلالات الحدث أو معانيه، من وجهة نظر الفريقين. ففي قلب الحدث تقع شخصية صدام حسين وأسلوبه في الحكم أو "الشرعية" الباقية له مع الزمن. ثمة جانب يضيق فيه الخلاف إلى حد كبير، وخاصة خارج العراق. فالرئيس الراحل حكم بأسلوب وحشي, فقتل وزج في السجون بعشرات الآلاف من المواطنين، كما ضحى بأرواح وسلامة مئات الآلاف في حروب أهلية ودولية متتابعة وكان يمكن تجنبها بقدر بسيط من المرونة والذكاء السياسي. ومجرد تصنيف ضحايا النظام الصدامي هي مهمة ترهق الروح والعقل معاً. فهناك من قتل أو عذب وأصيب بسبب مجرد الاختلاف السياسي والأيديولوجي بمن في ذلك بعض أساتذته وزملائه في "حزب البعث", وهناك من وقع قتله في حروب أهلية مع الأكراد والتنظيمات الشيعية, وفي عمليات النقل السكاني والتطهير العرقي بالغة القسوة, فضلاً عن عمليات القصف بالغازات الكيماوية السامة وغيرها مما أزهق أرواح عشرات الألوف وأجبر ملايين على الهرب بحياتهم إلى مختلف المنافي. كيف يمكن أن نعد رجلاً من هذا النوع، كان يقود نظاماً هذا هو سجله، شهيداً أو نعتبره من بين القديسين والأبطال القوميين؟ الواقع أن مجرد الأسف والحزن عليه يحمل معنى عدم الإكتراث بأرواح كل هؤلاء الضحايا، بغض النظر عن أسمائهم وانتماءاتهم العرقية أو المذهبية أو السياسية. ونخشى أن كثيرين في العراق لا زالوا يعدونه الرئيس الشرعي للبلاد، وهو ما يراه البعض الآخر إصراراً على استعادة أسلوب الرجل في الحكم. وتنطوي هذه الفكرة على الدعوة لأسلوب معين في خوض الصراعات الفكرية والسياسية: من يحكم يقتل الآخرين ومن ينتصر بالإنقلاب أو الإرهاب أو الحروب، يستهتر بأرواح الآخرين ويستحل إزهاقها. وتتضاعف هذه المخاوف بسبب أن أنصار صدام حسين لا زالوا يستخدمون كالعادة لغة بالغة القسوة والعنف في وصف مخالفيهم، مثل الكفار والخونة وعملاء المجوس والفرس... إلخ. والواقع أن تقديس الطغاة بين الشعوب ليس أمراً جديداً في التاريخ. وأنت إن ذكرت بشيء من النقد شخصيات تاريخية شديدة القسوة مثل جنكيز خان بين قبائل التتار أو هولاكو وتيمورلنك بين قبائل المغول، ينظر لك الناس هناك بغضب وكراهية واحتقار. ونعرف أن نفس تلك الظاهرة: أي تقديس الطغاة شائعة حتى بين شعوب مثقفة ثقافة رفيعة في العصر الحديث. فلا زال ستالين وموسوليني بل وهتلر، يتمتعون بشعبية كبيرة في روسيا وإيطاليا وألمانيا على التوالي. وقد يعني ذلك أن هؤلاء الطغاة هم أبناء ظروفهم. وقد يرى فيهم كثيرون أبطالاً لأنهم حافظوا على بلادهم ولو بقدر كبير من القسوة "الضرورية". وهذا هو خط الدفاع عن صدام حسين بين أنصاره العرب الأكثر عقلانية. ويؤكد هؤلاء نفس الفكرة بالإشارة إلى أن الأوضاع الحالية ليست أفضل، بل هي بالتأكيد أسوأ من سنوات حكمه. وهذا هو ما قال به حكيم دولي مهم مثل كوفي عنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة. ويبدو ذلك صحيحاً من الناحية الشكلية على الأقل. غير أنه لا يعد صحيحاً تماماً لسبب ليس واضحاً في أذهان غالبية الناس. فالعراق وصل إلى الحالة المزرية الراهنة ليس بسبب طبائع العراقيين- كما يعتقد أو يصر كثيرون- وإنما بسبب أداء وسياسات نظم حكم متتابعة وخاصة نظام الرئيس صدام حسين الذي مزق الروابط الأخوية بين الجماعات العراقية المختلفة ودفع العراقيين لتبني أيديولوجيا تعتبر العنف المطلق الطريق الوحيد الممكن إلى الخلاص والنصر. ولم يفعل الأميركيون غير تعميق ما ورثوه من أوضاع سياسية وطائفية مخيفة وتوظيفها لصالح مشروعهم الاحتلالي والاستغلالي والقمعي في العراق منذ 2003. وإذا جردنا الأمر من الظروف الخاصة بكل دولة على حدة، يمكن القول بأن بعض أسوأ الطغاة في التاريخ وقع تقديسه في زمانه أو بعد زمانه، بسبب وقفته ضد خصم قومي يستقطب كراهية ورفضاً أشد. وفي الحالة العربية الراهنة يمكن تفسير الحزن والشعور العاتي بالإهانة القومية، بين قسم مهم من العراقيين ومن العرب عموماً، بأن الرجل كان يواجه أميركا التي استباحت حرية واستقلال العراق. ونشهد في الأرض المحتلة نموذجاً خالصاً لهذه النظرة حيث قسم كبير للغاية من الشعب الفلسطيني يقدس الرئيس العراقي الراحل بسبب خطابه المعادي لإسرائيل وبسبب أنه الرئيس العربي الوحيد الذي طال إسرائيل بضربها بالصواريخ أثناء الحرب الأميركية ضد العراق عام 1991. ولا شك أن الاحتلال وضعٌ أسوأ من الاستبداد الوطني, لأنه بذاته ينطوي بالضرورة على الاستبداد فضلاً عن العنصرية. وببساطة فإن "تقديس" صدام حسين أو الحزن الشديد على رحيله، يعود قبل كل شيء إلى كراهية العرب لأميركا وإسرائيل، وليس بالضرورة لتفضيل أسلوبه في الحكم أو فضائله الذاتية. ورغم أن ضحايا صدام حسين ونظامه، ينتشرون في كافة قطاعات الشعب العراقي، فمن الطبيعي أن تنتظم المشاعر تجاه هذا الحدث تبعاً لشدة الظلم الذي حاق بمختلف الجماعات. لقد وقع ضحايا كثيرون من السنة بسبب التعسف والظلم اللذين اتسم بهما حكم الرئيس الراحل, ولكن بطش النظام بين السنة لا يقارن بالأسلوب المنهجي الذي قمع به الشيعة والأكراد الذين تحملوا العبء الأكبر لإجحاف وبطش الرجل ونظامه. وكان ينبغي على السنة العراقيين والعرب عموماً، أن يتفهموا أسباب الحقد على الرجل ونظامه من جانب هاتين الجماعتين الكبيرتين في العراق. وبالمقابل كان ينبغي على هاتين الجماعتين أن تتفهما الرفض المطلق من جانب العرب السنة، داخل وخارج العراق، للاحتلال الأميركي ولدلالاته البشعة، بما في ذلك الدعم المطلق لإسرائيل. نقول ذلك لأنه بدون هذا التفهم المتبادل لن يمكن أبداً الدفاع عن وحدة العراق وتأمين عملية ديموقراطية وإنسانية لبناء الأمة في هذا البلد الغالي. هنا تحديداً كان يمكن للقوى السياسية والثقافية العربية أن تقوم بدور في تجسير الفجوة الكبيرة بين أقسام الشعب العراقي. وبدلاً من مجرد الإشادة بخطاب صدام حسين الذي يدغدغ المشاعر القومية، يتعين علينا التوصل إلى تقويم للحدث يساعد على بناء التفاهم من أجل العيش المشترك واستعادة السلام الأهلي في العراق. فإعدام الرجل عمداً وبصورة قصدية يوم العيد، ليس أمراً مقبولاً ويشكل أهانة مفهومة تماماً لقسم كبير ومهم من العراقيين. وفي الوقت نفسه, فإنه من المتفق عليه أن محاكمته افتقدت للمهنية والاستقلالية والحياد. وكان من الممكن أن تصل صورة كاملة لأداء ومواقف هذا الرجل لغالبية الشعب العراقي والشعوب العربية لو لم يكن للأميركيين دور كبير في إعدامه مبكراً وفي هذا التوقيت بالذات, ولو كانت المحاكمة قد استمرت وتعاملت مع جميع القضايا المنسوب فيها للرئيس الراحل جرائم ضد الإنسانية. وعلى الجانب المقابل فإن عدم الاكتراث التام بجرائم الرجل المعروفة في العراق وخارجه من جانب السنة العرب والعراقيين، ليس من الأمور التي تساعد على العيش المشترك وبناء التوافق الضروري بين العراقيين حول مستقبل نظامهم السياسي. إن معنى الأمة ليس التجانس بالضرورة وإنما التنوع والقبول المتبادل في ظل دولة مستقلة وموحدة لا تميز بين مواطنيها على أساس الهوية الموروثة.