كتبت هذا المقال عندما كانت قوات حكومة "بيداوا" الصومالية مع حلفائها الأثيوبيين تكاد تسيطر على مقديشو. وقد يسيل كثير من الدماء، قبل أن تصمت المدافع. وتشير "انسحابات" قوات "المحاكم الإسلامية" إلى أنها غير قادرة على مواصلة "الحرب"، ولكنها بالتأكيد ستواصل نمطاً من "المقاومة الشعبية" بتحريك عناصرها الذين كانت تزعم السيطرة بهم في وسط وجنوب الصومال. وتملك "المحاكم الإسلامية" في هذا الصدد إمكانيات أفضل مما توفر لها وهي تزعم "إقامة الدولة" على أساس تحكيم الشريعة الإسلامية. فقيادة "المحاكم" كما يتضح من خطابها الوعظي الشعبوي لا تعبئ به إلا جماهير التدين التقليدي وهي جماهير معتدلة كالعادة، كما عبأت أجنحة في هذه القيادة روحاً قتالية استشهادية بحتة، تزعمها "صوفي، عسكري" مثل "ضاهر عويس" ومعنى ذلك أنه لم يبرز في الصومال ذلك "الإسلام السياسي" الذي يخلق التنظيمات، ويجيد الحوار والمناورة. أما قاعدتهم من التجار وأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة، فكانوا يدركون ذلك جيداً؛ ولم يكن دافعهم "تحكيم الشريعة". وهم متدينون تقليديون أصلاً -إنما كانوا يسعون إلى دعم "جماعة متماسكة" لتحقيق الاستقرار للشركات والمصالح، بعد فشلهم في دعوة أمراء الحرب للاتفاق وفق محاولات توفيقية، جرت في القاهرة وجيبوتي من قبل. ولا ننسى أنه حتى اتفاق "نيروبي" الذي تم وفق تدخلات دولية وإقليمية عديدة، وأقام برلماناً وحكومة ومشروعات للجيش، لم يستطع أن يصل بهؤلاء "الأمراء" إلى أكثر من "جوهر" و"بيداوا" عند وصولهم بالطائرات، لأن آخرين ترقبوهم بالتهديد في مقديشو. من هنا بدأ تفتيت "الحكم الصناعي" هذا حيث وضع قدمه وتتابعت الانقسامات والاستقالات من الحكومة، بعضهم انضم لـ"المحاكم"، وبعضهم راح يتمترس في قراه وأحيائه، أو بين جماعاته القبلية في انتظار للحظة "مناسبة" مثل التي يمر بها الصومال كله حالياً. وفي فترة "التفتت" هذه بين "أمراء الحرب" دخل عنصر التجار ليدفع بالمحاكم إلى المقدمة، كما دخل "العنصر الأثيوبي" ليدعم من بقوا في "بيداوا" متماسكين بدرجة أو بأخرى. في الساحة إذن الآن: بقايا "المحاكم" التي ستنتشر لتقاتل -كحرب عصابات- في مختلف الأقاليم الجنوبية، ولا يستبعد قيامهم بالإدارة وزعم السيطرة أو الاستقرار في مدينة أو أخرى بالجنوب. وهناك من جهة أخرى بقايا أمراء الحرب من خارج أو داخل تكوينات "بيداوا" وجوهر و"بونت" العسكرية، كما ستكون هناك قوات أثيوبية وأرتيرية يواجه بعضها بعضاً على أرض بعيدة عن حدودها، وتفرض بالتالي ألواناً من التقسيمات الجديدة بين الأمراء والطامحين الجدد، في جو من الفوضى، وفي أحسن الأحوال العودة لتقسيم مقديشو بنفس النمط السابق على الحرب وفق علاقات القوة مع الغزاة الجدد. يُقال إن من بقوا في "بيداوا" أو من يسمون بالحكومة الانتقالية الصومالية (رئيس الدولة ورئيس الحكومة وبعض الوزراء والسفراء) هم العقلاء، المتعلمون، ذوو الخبرة الدولية، وخبرة الإدارة، ويستطيعون أن يدركوا استحالة بقاء "أجنبي" على أرضهم وخاصة إذا كان "أثيوبياً". مثلما استحال بقاء القوات الأميركية أوائل التسعينيات، رغم وجودها ساعتئذ عقب "الحكم الديكتاتوري" وفي إطار "قوات سلام دولية"! قد يكون هذا الإدراك في ذاته بداية لطرح صيغة جديدة للصومال، في ظروف اضطرار الجميع إلى الجلوس إلى مائدة المفاوضات مرة أخرى في الخرطوم، وفق الدعوة القائمة من قبل الجامعة العربية ومنظمة الاتحاد الأفريقي. سنصبح إذن مع "سقوط مقديشو" أمام عدة خيارات تعتمد على قوة أطرافها، وتعبئة الموقف لصالح هذا الخيار أو ذاك. دعونا نبدأ بالموقف الأميركي الذي قد تحكمه بدرجة ما روح الانتقام للشرف العسكري الأميركي الذي داسه الصوماليون على أرض مقديشو عام 1993 و"جرجر" أحد جنوده بطريقة مهينة إلى جانب قتل العشرات من القوات الأميركية التي انسحبت فوراً، وكأنه "قوة عالمية" تنسحب أمام "أطفال الشوارع" الصوماليين (والكاميرات الغربية نفسها هي التي جعلت الموقف يبدو كذلك بالفعل في شوارع مقديشو!). فإذا ما استبعدنا عنصر الانتقام -الذي لا يبدو علمياً!- فدعونا نعود إلى السقف الأميركي بشأن الحزام المحيط بـ"الشرق الأوسط الكبير"، وبأهمية نظرية "الفوضى البناءة" في النظم الإقليمية، في نفس الوقت. ولا ننسى أنها عبر دعمها للموقف الأثيوبي وتدخله بعنف دون حرج بهذا الشكل، إنما تستكمل اختراق النظام العربي وعزلة حتى عن الموقف الأفريقي الذي كان يعتمد على تنسيق الجامعة العربية مع الاتحاد الأفريقي، بل ومع "الإيغاد" من أجل حلول إقليمية لها بعض الاستقلالية وبعض الكرامة في معالجة الأزمات. ويبدو حمق الموقف الأميركي في مجلس الأمن بشأن طلب وقف إطلاق النار بنفس حمقه السابق في الحالة اللبنانية. والولايات المتحدة تخترق أيضاً -بهذا النصر الأثيوبي- المصالح الأوروبية نفسها، وكلها ممثلة في القرن الأفريقي، بريطانيا وإيطاليا وفرنسا على السواء. وقد كان مندوب الاتحاد الأوروبي في مقديشو منذ أيام فقط قبل أن يطيح الجيش الأثيوبي بمبادرته للحل. ولن نطيل الآن في الفروض إلى أن يستقر الموقف على حال أو أخرى لتؤكد هذا الخيار أو ذاك. في ظل احتمال الرغبة الأميركية- الأثيوبية لتحقيق الاختراق الكامل لكل التدخلات الأخرى في الصومال، يمكن أن تصل حكومة بيداوا "الصورية" إلى مقديشو، ويبدأ أمراء الحرب في التنازع على مناطق النفوذ، و"مواجهة الحرب الشعبية" الإسلامية في عدد من الأقاليم، فيعود الصومال بذلك كما كان منذ عامين، مجرد إقليم مضطرب تواجه فيه الإدارة الأميركية مزاعمها حول مقاومة الإرهاب، ليتأكد لها وجودها المسيطر أيضاً في المحيط الهندي والبحر الأحمر، إلى جانب دعم "قوة إقليمية" صاعدة مثل أثيوبيا، سبق أن أيدتها ضد إريتريا نفسها في أكثر من موقف، ومن ثم تقوم قوة أثيوبيا لا لصالح العمل الأفريقي الإقليمي نسبياً بنمط نيجيريا أو جنوب أفريقيا، وإنما وفق نمط أميركي كامل بعجرفة القوة. وهناك احتمال آخر بأن تكون قوة المساندة التي حصلت عليها "المحاكم الإسلامية" من عدد من الدول العربية والإسلامية، ذات فعالية تجعل المحاكم تساوم بها أو تلوح بها لتهديد المصالح الأميركية وإرهاق الجيش الأثيوبي بما لا يستطيعه وهو بعيد عن حدوده. وعندئذ قد يفلح ذلك في تجيير الموقف لصالح تعاون أفريقي- عربي لجمع "الفرقاء" في الخرطوم على وجه السرعة، وطرح مبادرة مجلس السلام والأمن الأفريقي حول توفير "قوة سلام" أفريقية "نمط الحل الدارفوري". وهنا تستطيع المجموعة العربية أن تحول "تهمة التدخلات" إلى "التعاون في الحل" مع استبعاد "النوايا" المضافة من خارج الحدود العربية وبأمل ألا يكون "الجهد العربي" هذا بدوره لصالح "النوايا الغربية" مع أن ذلك غير مألوف في المنطقة العربية الآن. أما الاحتمال الصعب، فهو أن تتقدم الشخصيات العقلانية في حكومة "بيداوا" بحل توافقي، يتفق مع ما نسمعه عن ثقافتهم وخبرتهم السياسية والدبلوماسية؛ فيطرحون نموذج "التحالف الوطني" الذي يتخلى عن "أمراء الحرب" ويغري التجار وقوى الرأسمالية الصومالية بالتعاون لتجديد بناء الدولة الصومالية، ومحاولة التوافق مع "المصالح الخارجية" بعلاقات ليست غريبة عن خبراتهم، بدلاً من تهم العمالة والخيانة، فنشهد في وقت قريب، بالتعاون مع الحل العربي- الأفريقي المطروح مرحلة صومالية جديدة لا تقوم على الاقتتال الذي أنهك الشعب الصومالي كثيراً.