توقعت الوكالة الدولية للطاقة الشهر المنصرم أنه بحلول 2009 ستتقدم الصين على الولايات المتحدة باعتبارها أكبر مساهم في انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، المتسببة في ظاهرة الاحتباس الحراري في العالم، أي قبل أكثر من عقد مما كان متوقعاً. وقد يدفع هذا التوقع الصين إلى تبني معايير جديدة صارمة في مجالي البيئة والطاقة، غير أن عدداً من المؤشرات يقودنا إلى غير ذلك. إذ انكبت الصين منذ بعض الوقت على استراتيجية مختلفة جداً الغرض منها تحسين سمعتها البيئية، وتتمثل في إطلاق حملة سياسية تُلقي الجزء الأكبر من مسؤولية المشاكل البيئية المتزايدة للبلاد على كاهل الأجانب، ولاسيما الشركات متعددة الجنسيات. وإذا كانت الحملة لا تزال في مراحلها الأولى، فإنها اكتسبت زخماً قوياً خلال الشهر المنصرم؛ حيث اتهم مسؤولون صينيون كبار، وبعض وسائل الإعلام، بل وحتى بعض النشطاء البيئيين، الشركات متعددة الجنسيات وبلداناً أخرى بتصدير التلوث، وخفض معاييرها التصنيعية البيئية، والتجاهل المتعمد لقوانين الصين البيئية. والحال أن الزعماء الصينيين، الذين يواجهون غضباً شعبياً ودولياً متزايداً على خلفية أزمة البلاد البيئية، يستغلون المشاعر القومية والمعادية للأجانب لصرف الانتباه عن فشلهم. ففي أواخر أكتوبر الماضي، اتهم مسؤول بيئي كبير يدعى "بان يو" الدول المتقدمة بـ"الكولونيالية البيئية"، وبنقل الصناعات الملوثة والمستنفدة للموارد إلى الصين، وعدم تحمل سوى القليل جداً من العواقب البيئية المترتبة على ذلك. كما زعم عضوٌ بارز في "الكونجرس الشعبي الوطني الصيني" أن الشركات الأجنبية لا تقوم بتصدير نفاياتها إلى الصين فحسب، وإنما تدفع أجوراً زهيدة للعمال الصينيين. وعندما نشرت منظمة صينية غير حكومية قائمة بأسماء 2700 شركة متهمة بخرق قوانين الصين المتعلقة بالماء في أكتوبر المنصرم، تركز حماس وسائل الإعلام بشكل حصري على الشركات متعددة الجنسيات الثلاث والثلاثين من قبيل شركات "3M" و"باناسونيك" و"بيبسي" و"DuPont، في حين تغاضت عن أزيد من 2600 شركة صينية ورد اسمها في القائمة. وعلى نحو لا يدعو إلى الاستغراب، التقط أصحاب المواقع الشخصية على شبكة الإنترنت الإشارة، وناقشوا السياسات "الكولو- بيئية" للشركات متعددة الجنسيات، داعين إلى "تعويضات بيئية". بل إن النشطاء البيئيين الذين عملوا بشكل وثيق مع الشركات متعددة الجنسيات لم يتوانوا عن اتهام هذه الشركات بعدم ممارسة ما تدعو إليه. أما الفكرة من وراء الحملة فبسيطة، وإن كانت غير سديدة. فقد جلب اقتراب موعد الألعاب الأولمبية المقبلة معه تركيزاً دولياً غير مرحب به على واقع الصين البيئي. ومما يذكر هنا أن الصين حظيت بالموافقة على طلبها استضافة الألعاب الأولمبية على أساس وعدها بتنظيم أول ألعاب "خضراء" في العالم. غير أنه بعد خمس سنوات على ذلك، لم يعد الحديث يدور حول ألعاب أولمبية خضراء، وإنما فقط حول نطاق حركة الإغلاق اللازمة التي ستشمل الصناعات ووسائل النقل في بكين والأقاليم المجاورة لضمان أن يتمكن الرياضيون من التنفس. علاوة على ذلك، فقد جعلت المشكلة المناخية العالم لا يركز على مساهمة الصين في الاحتباس الحراري العالمي فحسب، وإنما أيضاً على دورها باعتبارها أكبر مساهم في عدد من المشكلات البيئية العالمية الأخرى مثل التسبب في ثقب طبقة الأوزون وتجارة الحطب الممنوعة والتلوث البحري. ولعل أكثر ما يقض مضاجع الزعماء الصينيين هو مساهمة البيئة في حالة من التوتر الاجتماعي. حيث نشرت صحيفة "تشينا ديلي" في مايو المنصرم ما يفيد بأن نشطاء البيئة نظموا 50000 مظاهرة في الصين عام 2005 احتجاجاً على ما لحق بالبيئة من أضرار، بعضها عرف مشاركة أكثر من 30000 شخص، وأدى إلى حدوث إصابات خطيرة، بل وحالات وفاة. وهكذا، يمكن القول إن التضحية بالأجانب في مثل هذه الظروف يمكن أن تكون خياراً سياسياً جذاباً! ومما لاشك فيه، وعلى غرار جميع الحملات السياسية الصينية، أن ثمة جزءاً من الصحة في بعض هذه الاتهامات. وبالتالي، فعلى الشركات متعددة الجنسيات الواردة أسماؤها في القائمة أن تبذل جهداً أكبر لضمان اشتغال مصانعها وفق أعلى المعايير البيئية. والحال أن أزمة الصين البيئية ومساهمتها في التلوث العالمي هي من صنعها. والواضح أن معظم الشركات الصينية غير مستعدة لتكون رائدة في مجال حماية البيئة، إذ يعد قطاع الطاقة الصيني القائم على الفحم، والمملوك في عمومه من قبل الدولة، مثلاً السببَ الأول لتلوث الهواء في الصين. ومن جهة ثانية، لم تؤيد سوى 18 في المئة من الشركات الصينية، في استطلاع للرأي أجري مؤخراً، فكرةَ تحقيق ازدهار اقتصادي واحترام البيئة في آن واحد. والحقيقة أنه ينبغي على الزعماء الصينيين تربية الصناعة الصينية وإصلاحها. كما عليهم أن ينشئوا بنية تحفيزية لتسهيل مهمة الموظفين المحليين ورؤساء الشركات والقيام بالأمر الصحيح. ولهذا الغرض، عليهم أن يبدوا شفافية أكبر، ويعملوا على محاسبة المسؤولين، وإعمال القانون ضمانا لتدبير فعال للبيئة، وهي خطوة تحاشوا في السابق اتخاذها خشية تقليص سلطتهم السياسية. لقد شكلت البيئة واحداً من المجالات الأكثر إثماراً بين الصين وبقية العالم لقرابة عقدين من الزمن، حيث ضخت الحكومات الأجنبية والمنظمات الدولية مليارات الدولارات من المساعدات البيئية في الصين. وفي أغلب الحالات، كانت الشركات متعددة الجنسيات في الخطوط الأمامية لجهود رفع معايير الصين البيئية، حيث نقلت إليها أكثر الممارسات احتراماً للبيئة وأحدث التكنولوجيات، وشجعت جملة من المبادرات البيئية الأخرى. ولذلك كله، فعلى الصين ألا تجازف بكل هذا -وبمستقبلها البيئي- مقابل مزايا قصيرة الأمد، ووهمية في معظمها، للعبة تقوم على إلقاء اللوم على الغير. إيليزابيث إيكونومي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مديرة الدراسات الآسيوية بـ"مجلس العلاقات الخارجية" الأميركي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"