قبل ثلاثين عاماً، وعلى مائدة الإفطار سألت وزير الخارجية الأميركية وقتها هنري كيسنجر: "بعد نجاحك في إقناع القوات العربية على الجبهتين المصرية والسورية بإلقاء السلاح خلال حرب 1973، لماذا لا يبذل الجهد ذاته لحل الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني؟" فأجابني كيسنجر بأنه في المفاوضات الصعبة يتم أولاً الانكباب على القضايا السهلة، ويترك ما استعصى منها للمراحل الأخيرة. بيد أن تلك المقاربة التي قد تكون ساعدت في التوصل إلى اتفاق سلام بين إسرائيل ومصر في 1979، وبينها وبين الأردن سنة 1994، فشلت في حل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي الذي ظل عامل توتر واضطراب في الشرق الأوسط، بل وفي العالم أجمع. ولعل ما شهده لبنان من احتقان سياسي وأزمة مستفحلة عقب اغتيال القائد المسيحي والوزير بيار الجميّل هو فقط أحد الأسباب التي تحتم ضرورة الإسراع في حل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني الذي دام عقوداً من الزمن. وهي قناعة يبدو أن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير يسعى إلى إيصالها إلى رئيس أميركي متردد. لكن ما العلاقة بين خط التماس الإسرائيلي- الفلسطيني والأزمة الحالية في لبنان؟ الواقع أن العلاقة متداخلة إلى حد كبير، فالتاريخ يكشف بأن لبنان كان أحد أول ضحايا الحرب العربية- الإسرائيلية لعام 1948 التي أعقبت ميلاد إسرائيل. فقد اضطر لبنان، البلد الصغيرة الذي لا يتجاوز عدد سكانه الخمسة ملايين نسمة، للقبول بالتدفق الكبير للنازحين الفلسطينيين الذين باتوا اليوم يعيشون في مناطق معزولة، أو "جيتوهات" تضمن أكثر من نصف مليون فلسطيني داخل لبنان. وخلافاً للفلسطينيين في سوريا، أو الأردن الذين اندمجوا بسهولة، ظل الفلسطينيون في لبنان محرومين من حق التصويت، والحصول على الوظائف، وهم مازالوا يعتمدون على دعم المنظمات الدولية. وفي 70-1971 طرد النظام الأردني منظمة التحرير الفلسطينية التي كان يرأسها ياسر عرفات، لتحط برحالها وقواتها المسلحة في لبنان، وهي الهجرة التي كثيراً ما أزعجت البلد المضيف. وأثناء مقامهم في لبنان انكفأ الفلسطينيون على أنفسهم وأقاموا شبه دولة موجهة بالأساس ضد إسرائيل، وأصبح سكان الجنوب اللبناني من الشيعة دروعاً بشرية في وجه الاجتياحات الإسرائيلية المتكررة. وبعد الاحتلال الإسرائيلي للبنان في 1982 تكاثفت الجهود الإيرانية والسورية لخلق جماعة مقاتلة ضد إسرائيل باتت تعرف فيما بعد بـ"حزب الله". واليوم يتحدى "حزب الله" الائتلاف الحاكم المشكل من المسيحيين والمسلمين السُّنة المناوئين لسوريا، والذين كان ينتمي إليهم الراحل "بيار الجميل"، في محاولة لبسط سيطرة الأقلية الشيعية على الحكومة. وإذا ما نجح "حزب الله" في السيطرة على الحكومة ومن خلاله سوريا وإيران، فإنه يحق للمسيحيين والطوائف الأخرى من غير الشيعة أن يتوجسوا من تحول بلادهم مجدداً إلى جبهة متقدمة في الصراع مع إسرائيل على غرار ما كان يطمح ياسر عرفات في الأردن خلال سنوات السبعينيات. وقد أرخى الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي بظلاله حتى في المناطق البعيدة عن المشرق العربي، وتحديداً في شمال أفريقيا. فخلال تغطيتي للثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي في الفترة بين 1954 و1962 رحب حزب "العمل" الحاكم في إسرائيل وقتها بحركة التحرر الجزائرية، إلا أنه سرعان ما غير موقفه عندما تبين لإسرائيل أن الجزائريين يساعدون منظمة التحرير الفلسطينية من خلال التدريب والدعاية. وكرد فعل على ذلك ساندت إسرائيل المستوطنين الفرنسيين المتشددين المحسوبين على منظمة الجيش السري، التي عارضت مواقف الرئيس الفرنسي "شارل ديغول" القائمة على منح الجزائريين حرية اختيار الاستقلال في استفتاء عام 1962. وغني عن القول كم مازال هذا الإرث الثقيل يؤثر في العلاقات بين الدول الأوروبية وجالياتها المسلمة إلى غاية اليوم. وبالطبع لا يمكن استثناء الدور الأميركي في عملية حل النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي إذ كلما ضغطت الولايات المتحدة على الأطراف المعنية، كلما تحقق تقدم في العملية السلمية. فقد لعب الدبلوماسي الأميركي المتميز "رالف بونش" دوراً كبيراً في التوصل إلى اتفاق الهدنة بين إسرائيل والعرب عام 1949. وخلال أزمة قناة السويس ضغط الرئيس الأميركي "إيزنهاور" على بريطانيا وفرنسا وإسرائيل لوقف غزوها لمصر، وهو ما حال دون توسع دائرة الصراع إلى الاتحاد السوفييتي الذي كان يدعم جمال عبدالناصر في تلك الفترة. وحتى اليوم مازالت الولايات المتحدة تسعى من خلال وزارة الخارجية إلى تكثيف الجهود الدبلوماسية الرامية إلى استئناف العملية السلمية. وفي هذا الإطار لم تدخر وزيرة الخارجية الأميركية "كوندوليزا رايس" جهداً في البناء على الدور الأميركي التقليدي في الشرق الأوسط لحل أزماته لو لم تصطدم بالرئيس بوش وفريق "المحافظين الجدد" الذين عطلوا الجهود الدبلوماسية. ويبدو أن المساعي الحالية التي تبذلها "رايس" في غزة لتعزيز الهدنة الفلسطينية- الإسرائيلية الهشة خطوة في اتجاه تغيير مسار الإدارة الأميركية. غير أنه لكي تنجح المساعي الأميركية في إنهاء الصراع الطويل بين الفلسطينيين وإسرائيل، لابد من إعادة الحياة مجدداً للاتفاقات السابقة. وفي هذا الصدد يتعين على الولايات المتحدة وإسرائيل التخفيف من ضغوطهما الاقتصادية على الفلسطينيين. ومن ناحيتهم يتعين على الفلسطينيين وقف أعمال العنف مقابل إزالة إسرائيل للجدار العازل في الضفة الغربية والتخلي عن نقاط التفتيش الكثيرة التي تعرقل حركة الفلسطينيين، ثم وقف مضايقاتها الأخرى من أجل مستقبل أفضل للشعبين. جون كولي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مراسل سابق لـ"كريستيان ساينس مونيتور"، غطى منطقة الشرق الأوسط لأكثر من أربعين عاماً ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"