تستدعي الحالة الفكرية العامة في عالمنا العربي التي ميزتها في السنوات الماضية حالة استقطاب بين القوى الدينية والعلمانية، أن نفكر في حشد قرائح الباحثين لدراسة حالات الصراع والتوافق الديني العلماني في تجارب الأمم الأخرى بل وفي التاريخ العربي ذاته، علنا نتبين الدروب التي يجب أن نمضي فيها لتجنب مطبات هذه الحالة. لقد دفعني القلق من نتائج الصراع والشقاق في المجتمعات العربية، إلى التفكير بحكم تخصصي، في تقديم دراسة مركزة حول مراحل الصراع والشقاق ثم التوافق في التجربة اليهودية. وإنني أعتقد أن الباحثين العرب في ثقافات الشعوب الأخرى، يستطيعون تزويد المكتبة العربية بخبرات هذه الشعوب في هذا المجال، لتتراكم لدينا حصيلة من الخبرات المتنوعة التي يمكن للباحثين في الثقافة العربية الإسلامية، ولأولي الأمر القائمين على مقاليد مجتمعاتنا أن ينتفعوا بها. إن الانتفاع هنا لا يمكن أن يقع في خانة المحاكاة، فلكل ثقافة خصوصياتها التي تحكم مجريات الصراع والتوافق. إنني اعتبر قضية الوصول إلى توافق في هذا الصدد في الدول العربية، قضية ترقى إلى مستوى قضايا الأمن القومي السياسية. ومبرراتي في هذا الشأن واضحة، حيث إن الخاصة العربية يمكنها بيسر ملاحظة المخاطر التي تهدد الاستقرار والوحدة الوطنية طالما ظل هذا الصراع محتدماً. وبالتالي فإنني أعتبر هذا المقال بالإضافة إلى الدراسة المركزة التي وضعتها في كتاب حول التجربة اليهودية، دعوة إلى جميع المثقفين والباحثين العرب إلى الاحتشاد في اتجاه دراسة التجارب الدولية وتجارب التاريخ العربي ذاته. وفيما يتعلق بالتجربة اليهودية، فإنني أدرك حالة النفور أو الاستعلاء التي قد تراود بعض المثقفين العرب تجاه دراستها أو استخلاص دروسها بحكم علاقة الصراع العربي- الإسرائيلي. غير أنني هنا، أدعو إلى ضرورة إدراك مغزى الرواية التاريخية المصرية حول العلاقة مع القبائل الهكسوسية التي غزت مصر في العصر الفرعوني. إن الرواية الشائعة بين علماء التاريخ المصري القديم، تؤكد أن هذه القبائل استطاعت إلحاق الهزيمة بالجيش الفرعوني واحتلال مصر نتيجة لتفوقها التكنولوجي، الذي كان ممثلاً في ذلك العصر في العربات العسكرية المحملة بالجنود والتي تجري على عجلات تجرها الخيول. وتفيد الرواية الشائعة أن الفراعنة قد أدركوا الدرس وفهموا أن عليهم الارتقاء التكنولوجي بمعايير العصر، وذلك بصناعة وتطوير العربات العسكرية التي استخدمها الملك أحمس في إلحاق الهزيمة بالهكسوس. إنني أشير إلى هذه الرواية التاريخية لبلورة المعنى الواضح الناتج عنها، فليس لنا أن نأنف من دراسة تجارب القريب والبعيد والعدو والصديق، في محاولتنا التخلص من حالة الصراع المهددة لسلامة مجتمعاتنا لاستخلاص العبر والدروس. إن التجربة اليهودية للصراع والتوافق بين التيارين الديني والعلماني، قد مرت بمراحل عديدة، اتسمت كل مرحلة بقضايا متباينة كانت موضع صراع وصل أحياناً إلى الحالة الدموية بين الأطراف المتصارعة وانتهت دائماً إلى محاولات للوفاق والتسكين، دون أن تلغي هذه المحاولات وجود الأساس الفكري عند الطرفين المتصارعين والذي أدى إلى اندلاع الصراع. لقد احتاجت حالة الصراع في جميع المراحل إلى قيادات فكرية قادرة على القيام بمهمة التوفيق، وفي نفس الوقت استفادت جهود التوفيق من الظروف والضغوط الخارجية. ويكفي هنا، أن نشير إلى الصراع الذي نشب بين المعسكر الديني الأرثوذكسي الذي يؤمن بمفهوم المسيح اليهودي المخلص، وبين المعسكر الصهيوني العلماني الذي قاده ثيودور هرتزل بإصدار كتيبه "الدولة اليهودية". لقد رأى المعسكر في أفكار هرتزل القومية العلمانية نوعاً من الكفر والهرطقة الدينية والانتهاك الصريح للإدارة الإلهية، التي حكمت على اليهود بـ"النفي خارج الأرض المقدسة" والتي حددت طريق العودة عن طريق المسيح الذي سترسله السماء في الموعد الذي تراه لتجميع اليهود في هذه الأرض. لقد اتخذ هذا الصراع أشكالاً فكرية وعملية ودموية، إلى أن تمكن بعض المفكرين من تسكينه منتفعين بتجربة الاضطهاد النازي لليهود لبناء الجسور بين العقيدة الدينية والفكرة الصهيونية العلمانية. لقد كان الخطر دافعاً، وكانت الرغبة في حماية اليهود منه أساساً للتوافق الفكري للمضي في المشروع الصهيوني وبناء الدولة.