المتابع للأمراض السرطانية خلال العقود القليلة الماضية، لابد وأن يلاحظ تزايداً مستمراً في معدلات انتشارها، وفي نسب الوفيات الناتجة عنها، بين شعوب دول العالم المختلفة. ففي القارة الأوروبية مثلاً، وحسب دراسة شهيرة صدرت عن الوكالة الدولية لأبحاث السرطان (International Agency for Research on Cancer)، ظهر أن الأمراض السرطانية تصيب 2.9 مليون أوروبي سنوياً، وتتسبب في وفاة 1.7 مليون منهم. ومن بين القائمة الطويلة للأمراض السرطانية التي تصيب سكان القارة الأوروبية، يحتل سرطان الرئة رأس هذه القائمة، حيث كان مسؤولاً وحده عن أكثر من 13% من مجموع حالات الإصابة بالسرطان، وعن 20% من الوفيات، والتي كان معظمها بين المدخنين. بينما احتل سرطان القولون المركز الثاني، حيث كان مسؤولاً عن 13% من مجموع الإصابات أيضاً، وعن 12% من الوفيات. بينما كان سرطان الثدي أكثر الأمراض الخبيثة انتشاراً بين النساء، حيث كان مسؤولاً وحده عن 27% من حالات السرطان بين النساء، وعن 17% من الوفيات بينهن. وإذا ما دققنا النظر في بريطانيا وحدها، فسنجد أن الأمراض السرطانية أصبحت تقتل عدداً أكبر ممن تقتلهم أمراض القلب وأمراض شرايين المخ والأمراض المعدية. حيث أصبحت الأمراض السرطانية مسؤولة عن وفاة 27% من الرجال في بريطانيا، وعن وفاة 23% من النساء. ولا يختلف الوضع عنه كثيراً في الولايات المتحدة، حيث يحتل السرطان المركز الثاني في قائمة أسباب الوفيات بين الشعب الأميركي. فمن بين كل سكان الولايات المتحدة، يصاب نصف الذكور، وثلث النساء، بنوع أو آخر من السرطان في وقت ما من حياتهم. أما على مستوى العالم، فيوجد حالياً ملايين المصابين بالسرطان، أو من الذين أصيبوا بالسرطان في وقت ما من حياتهم ثم نجوا منه. ويعزو الأطباء والعلماء هذه الزيادة المفزعة في أعداد المصابين بالسرطان، وفي أعداد الوفيات الناتجة عنه إلى سببين رئيسيين. أولهما، هو تطور التشخيص الطبي وارتفاع مستوى الرعاية الصحية عما كانا عليه قبل عقود قليلة. أي أن تطور التشخيص الطبي وتوفر الرعاية الصحية بشكل أكبر، تسببا في تحسن الكشف عن، وتسجيل حالات الإصابات بالسرطان، مقارنة بالعقود الماضية، التي كان الأطباء لا يدركون فيها سبب علة المريض من الأساس. أما السبب الثاني، والمتهم الأول، في زيادة معدلات السرطان، فهو العوامل البيئية والتغييرات الغذائية التي شهدتها المجتمعات البشرية منذ بداية الثورة الصناعية وحتى ثورة المعلومات التي نعيشها حالياً. هذه العوامل البيئية تقع ضمن نطاق ما يعرف بعوامل الخطر، وهي العوامل التي يزيد وجودها من احتمالات الإصابة بالمرض. وحسب هذا التفسير، والذي يلقى قبولاً واسعاً في الوسط العلمي، يمكن رد الزيادة الحادثة في الأمراض السرطانية، إلى زيادة التلوث البيئي الكيميائي الذي أصبح يعيش فيه حالياً إنسان العصر الحديث. وينتج هذا التلوث البيئي عن عدة مصادر مختلفة، مثل التلوث الناتج من عوادم السيارات، والتلوث الكيميائي بالمواد المسرطنة، والتدخين، والتلوث الغذائي بالمواد الكيماوية الحافظة أو بالمبيدات الحشرية والزراعية. هذا السبب الأخير كان قد تلقى سابقاً دعماً علمياً مهماً، عندما نشرت إحدى الدوريات العلمية المرموقة المتخصصة في الطب الغذائي والطب البيئي، نتائج دراسة رجحت وجود خطر على الأطفال والبالغين على حد سواء، من جراء التعرض للكيماويات الموجودة في المبيدات الحشرية. هذه الدراسة، التي قام بها فريق من علماء جامعة "ليفربول" ببريطانيا، اعتمدت على مراجعة وتحليل نتائج أكثر من 300 دراسة سابقة، عنيت جميعها بالعلاقة بين الأمراض السرطانية وبين مادة كيميائية خاصة موجودة في المبيدات الحشرية، يمكنها أن تعبر إلى جسم الإنسان مع الهواء، أو مع شرب المياه، أو مع أكل اللحوم ومنتجات الألبان. ويعتقد العلماء أن هذه المادة تؤثر على مستويات الهرمونات في الجسم، مما يثير القلق حول علاقتها بالأورام المعروف ارتباطها بالهرمونات، مثل سرطان الثدي والبروستاتا والخصيتين. وهو ما يؤكد تقارير وإحصائيات الاتحاد الأوروبي السابقة، والتي تشير إلى وجود علاقة بين العديد من المبيدات الزراعية والحشرية، شائعة الاستعمال حالياً في قطاع الزراعة داخل القارة، وبين الإخلال بمستويات الهرمونات، وما ينتج عن ذلك من أمراض سرطانية. وتبذل حالياً جهود حثيثة، بهدف تشخيص الأمراض السرطانية بشكل مبكر قدر الإمكان. فعلى الرغم من أن الأمراض السرطانية تتسبب في كم هائل من الوفيات حول العالم سنوياً، إلا أنه ممكن في الكثير من الحالات إنقاذ حياة المرضى، إذا ما تم التشخيص مبكراً. ولكن تكمن المشكلة في أن الكثير من أنواع السرطان، لا تظهر أعراضه إلا في مراحله المتأخرة، حينما يصبح العلاج عديم الجدوى، أو على الأقل ليس بنفس القدر من الفعالية. ولذا يعتبر أن التوصل إلى فحص روتيني، يمكنه الكشف عن السرطان في مراحله المبكرة، حتى يمكن علاجه وتخليص المريض منه قبل أن يستفحل وينتشر إلى الأعضاء الأخرى، هو جوهرة التاج التي تسعى للفوز بها المئات من المراكز الطبية المتخصصة حول العالم. هذه الجوهرة، لابد وأن تكون في شكل فحص بسيط، سهل التنفيذ، منخفض التكاليف، وفائق الفعالية في التمييز بين وجود المرض من عدمه. فمن غير هذه المواصفات، لن يمكن تطبيق الفحص على شريحة كبيرة من المجتمع، مما يجعله عديم الفائدة كفحص مسحي مبكر للجميع. أما على صعيد الوقاية، فيظل خط الدفاع الأول والأهم، هو خفض ما يتعرض له إنسان العصر الحديث من ملوثات كيميائية، إما بشكل مباشر أو من خلال ما يتناوله من طعام. د. أكمل عبد الحكيم