عندما وقفتُ لالتقاط صورة أمام جدارية "شهداء الصحافة" في مقر قناة "الجزيرة" الفضائية في الدوحة تساءلتُ: هل تكرر "الجزيرة" الناطقة بالإنجليزية قصة نجاح "الجزيرة" العربية؟ التفتُُ إلى أحد مقدمي البرامج، وهو عراقي كنت ألتقط الصورة معه، وفكّرتُ ببرنامجه عن العراق في الفضائية الجديدة؛ هل سيقدم "الرأي الآخر"، والذي يتطلع إليه كثير من الناطقين بالإنجليزية، حتى في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا؟ وهل يفتح ملفات "الفتنة الطائفية"، ويكشف لملايين المسلمين الناطقين بالإنجليزية دور واشنطن ولندن في التنظير للصراعات المذهبية؛ تخطيطها، وتمويلها، وتنفيذ مذابحها الجماعية؟ هل يخوض، حسب توقع الخبراء، في سجالات مع أجهزة الإعلام الغربية التي لعبت دوراً أساسياً في كارثة العراق، أم يوظف ثقافته العربية الأميركية، وعلاقاته وعمله السابق في واشنطن ولندن وأبوظبي في البحث عن مخرج من المأساة المروّعة في العراق؟ باختصار هل تنجح "الجزيرة" الإنجليزية في صنع "الأجندة" التي تُعتبر أهم عناصر استراتيجيتها؟ و"الأجندة" تحدّدُ "لغة"، وعناوين التغطية الإعلامية للفضائية الجديدة، التي تَعِدُ بأن تكون صوت الجنوب في الشمال، وليس العكس. ويعني ذلك إلغاء هيمنة أجندة الإعلام البريطاني والأميركي، التي "تضع العالم تحت إبطها" كما يقول التعبير العراقي. تبدأ "الجزيرة" الإنجليزية بثها في ظرف يتسم بفقدان الإعلام الغربي وزنه واتجاهه. فالرأي العام العالمي، حتى في بريطانيا والولايات المتحدة، يعيش أزمة ثقة بأجهزته الإعلامية، ويحمّلها مسؤولية التواطؤ في كارثة غزو العراق. وتلقى الفضائية العربية الجديدة ترحيب كثير من العاملين في أجهزة الإعلام العالمية، والذين يتوقعون أن ترفع، كما فعلت شقيقتها "الجزيرة" العربية، سقف التعبير والأجور. بعضهم يراهن بأنها ستكون نسخة من "سي. إن. إن"، حسب صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية، في حين يتوقع آخرون أن تكون "البديل الإعلامي، الذي يقصم ظهر الإعلام الغربي"، حسب صحيفة "أراب نيوز" الصادرة باللغة الإنجليزية في السعودية. لكن في المقابل فإن صحفاً أخرى قد استقبلت انطلاق الفضائية الجديدة بالتشهير، حيث ذكرت صحيفة عربية تصدر في لندن أن "الجزيرة تبدأ البث من واشنطن بمذيع يهودي، وجندي سابق في البحرية الأميركية شارك في الحرب ضد العراق". وحذر معلقون غربيون من أن "الجزيرة" الإنجليزية ستكون اللسان الناطق باسم الإرهابيين، كشقيقتها العربية، التي يزعمون أنها تبث صور قطع رؤوس المختطفين الأجانب في العراق. ويروي إعلاميون بريطانيون نكتة تقول إن "الجزيرة تبث برامجها على القناة 11/9"، إشارة إلى حادث تفجير الطائرات في نيويورك وواشنطن يوم الحادي من سبتمبر 2001. ويذكرنا ذلك بنكتة تقول إن "البي. بي. سي" تذيع على القناة 45، إشارة إلى التصريح المشهور لرئيس وزراء بريطانيا بأن صدام حسين يحتاج إلى 45 دقيقة لإطلاق صواريخه نحو لندن! الفارق بين النكتتين فاجع. فمن يتذكر "الدكتورة جرثومة" و"الدكتورة أنثراكس"، والقصص المرعبة التي اختلقها الإعلام الغربي عن العالمتين العراقيتين هدى عمّاش ورحاب طه؟ لم يصدر، حتى الآن إعلان رسمي عن براءتهما، ولم يحظ نبأ إطلاق سراحهما، بعد سنتين من الاعتقال، سوى ببضعة سطور، من دون تعويض، أو اعتذار لهما، أو للعراق الذي دُمّر بدعوى امتلاكه الأسلحة الجرثومية والكيماوية! هل تفتح "الجزيرة" الإنجليزية هذه الملفات المحرّمة، كما فعلت شقيقتها العربية؟ هل تجعل قضية تعويض العراقيين، شعباً وأفراداً، محوراً أساسياً في أجندتها؟ في الإجابة عن هذه التساؤلات، قد تكون توقعات ما سيحدث أقل إثارة للاختلاف من توضيح أسباب ما حدث. ويبدو ما حدث مصدر شائعات عدة تحاول تفسير انتشار "الجزيرة"، حيث يُشاع أن أمير قطر خصص لها مليار دولار. وتُعتبر "الجزيرة"، في رأي عدد من خبراء الإعلام، سلاح دولة قطر للدفاع عن بقائها، وإثبات وجودها على خريطة المنطقة والعالم. ولا يُنكر راجح عمر، وهو من أبرز مراسلي "البي بي سي" البريطانية الذين انتقلوا للعمل في "الجزيرة" الإنجليزية، دور المرتبات الضخمة، لكنه يضيف إلى ذلك عامل الحرية المتاحة للعاملين في "الجزيرة"؛ أي الحرية السياسية في تحدّي الأوضاع العالمية القائمة، والحرية الاقتصادية في مواجهة سطوة المعلنين، وحرية الإبداع مقابل تحكم بيروقراطيي الأجهزة الإعلامية. ولا تثير مغامرة العمل في فضائية قُصفت مكاتبها مرتين مخاوف عمر الذي ولد لأسرة صومالية لاجئة في بريطانيا، وعمل ست سنوات مراسلاً لـ"البي بي سي" في بغداد. ويُسّلم القادمون الجدد بأن "الجزيرة" الإنجليزية هي على شاكلة شقيقتها الكبرى العربية. "لو لم تكن الفضائية العربية لما كنا هنا"، قال ذلك راجح عمر الذي أطلقت عليه صحيفة "واشنطن بوست" لقب "فحل صواريخ سكود"، بسبب تغطيته المشبوبة لمعاناة العراقيين خلال سنوات الحظر والحرب. وتذهب "سو فيليبس"، رئيسة مكتب لندن إلى حد التصريح بأن فريق "الجزيرة" العربية يرشدهم، وأنهم يتعلمون الكثير منه. هل يهدف هذا الإطراء العلني إلى تخفيف الاحتكاك، وطمأنة الفريق العربي إلى أن الحظوة في صنع القرار، ورسم السياسات لن تكون للقادمين الجدد؟ قد تجيب عن هذا السؤال نتائج المعارك الأولى التي أدت إلى فوز "مدرسة" "الجزيرة" العربية في تحديد سياسة و"لغة" التحرير في "الجزيرة" الإنجليزية. يشير إلى ذلك انسحاب ممثلي مدارس "البي. بي. سي" و"سي. إن. إن"، و"سكاي"، وتولي المدير العام العربي وضاح خنفر الإدارة العامة لكلا القناتين. وينهي الاتفاق على "مسرد المصطلحات" عدداً من أوجه الخلاف حول "اللغة" و"التسميات"، ويتيح للمحرر المسؤول فسحة للاستعاضة، حسب الظرف، بمصطلحات "أفراد المقاومة"، عن "الإرهابيين"، أو "المسلحين"، أو "المتمردين". قد تخفف هذه الإجراءات من توتر البداية داخل مكاتب التحرير. لكني أتوقع أن تثير "الجزيرة" الإنجليزية، سجالات وخصومات بين مشاهديها، لا تقل عما تثيره شقيقتها العربية. فبث الفضائية الجديدة يدور حول العالم مع حركة عقارب الساعة، من مكاتبها الرئيسية الأربعة، بدءاً من كوالالمبور، إلى الدوحة، ثم لندن، وواشنطن. وتملك "الجزيرة" الإنجليزية 18 مكتباً حول العالم، ويبلغ مجموع مكاتبها مع شقيقتها "الجزيرة" العربية 60 مكتباً يعمل بها أكثر من 500 إعلامي. والرهان قائم حالياً على نجاح هذه القوة الإعلامية المؤثرة في المنافسة مع أكبر عمالقة التلفزيون الغربي. المعلق الثقافي لصحيفة "الغارديان" البريطانية مارك لاوسن، يعتقد بأن ما يسميه "المشاهد الطبيعي" للجزيرة "الإنجليزية" هو مخلوق نادر في بريطانيا، ولا وجود له تقريباً في الولايات المتحدة. لكنني أعتقدُ بأن "الجزيرة" قد تنجح في الصراع. ويعود نجاحها إلى الثورة التكنولوجية في وسائل الاتصالات والمعلومات. وهو ما يجعل فتاة عراقية تنشر يومياتها من بغداد على شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)، أشهر كاتبة مجهولة في العالم. يوميات هذه الفتاة، وعنوانها "بغداد تحترق"، صدرت في جزأين بالإنجليزية، وطبعات عدة، وتحولت إلى مسرحيات معروضة في مهرجان "أدنبرة" الدولي في بريطانيا، ومسارح برودواي في نيويورك. الفارق بين الفتاة البغدادية وفضائية "الجزيرة" فارق في الحجم، وليس في النوعية. هناك فتاة في العشرينات من العمر، وهنا فضائية عربية عملاقة. إنها لعبة ماكرة من لعب الثورة العلمية التكنولوجية التي تصنع التاريخ!