كنت قد ذهبت في مقال لي نشر مؤخراً، إلى أن المؤسسات الدولية المدافعة عن قيام القيادة الدولية على أساس المصالح الإنسانية العامة المشتركة، عادة ما يعوقها عزم القوى العظمى على تقديم مصالحها القومية على المصالح الإنسانية العامة المشتركة. ولكن على رغم ذلك، فقد مضت مسيرة القيادة المدفوعة بعزم وإرادة الشعوب. وقد تبينت هذه الحقيقة من خلال الثورات الديمقراطية الشعبية التي اكتسحت كلاً من وسط وشرقي أوروبا في عقدي ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. وكانت أجندة هذه الثورات، هي أجندة منظمات المجتمع المدني التي أشعلت تلك الثورات الديمقراطية، ممثلة في انتزاع حرية التجمع كما هو الحال في بولندا، وحقوق الإنسان في تشيكوسلوفاكيا السابقة، والسلام في ألمانيا الشرقية، وإعادة تأهيل الإرث الديمقراطي في المجر، إلى جانب حملة حماية البيئة في كل من بلغاريا ودول البلطيق. وبفعل القوة والدفعة التي استمدتها منظمات المجتمع المدني من هذه الثورات والتجارب، فقد استطاعت أن تشق طريقها إلى الأمام، في مواجهة تحديات القيادة العالمية. ويتضح هذا من خلال تأثير منظمات المجتمع المدني هذه، وتنامي دورها باعتبارها شريكاً نشطاً وحيوياً في الحكم الدولي، ومدافعاً عن قيم حقوق الإنسان. وقد لعبت هذه المنظمات المدنية الدولية، دوراً مهماً في عدد من المعاهدات والاتفاقيات الدولية، من بينها المعاهدة الدولية الخاصة بالألغام الأرضية، ومحكمة الجزاء الدولية، ثم معاهدة التغير المناخي. واستطاعت المنظمات نفسها، أن تؤدي دوراً مقدراً وكبيراً في ملاحقة ومحاكمة بعض الطغاة السابقين، من أمثال الجنرال أوغستو بينوشيه، وكذلك زميلاه الجنرالان سوهارتو وميلوسوفيتش. وبذلك تحولت منظمات المجتمع المدني إلى حركة رائدة في مضمار إقامة العدل الدولي. أما في منطقة الشرق الأوسط، فقد أثبتت المنظمات الشعبية، تفوقها على المؤسسات التقليدية الحكومية، في تقديم الخدمات التعليمية والاجتماعية والصحية للمواطنين. وكثيراً ما استطاعت تحدي القيادة التقليدية القائمة على سلطة الجهات الرسمية، على نحو ما نرى في الانتصارات الانتخابية الكبيرة التي انتزعتها في عديد من الدول. وفي لبنان، على سبيل المثال، تمكن "حزب الله"، باعتباره حركة سياسية وعسكرية غير رسمية، من منع إسرائيل من تحقيق نصر عسكري عليه، بعد مواجهات ومعارك دارت بينهما لأكثر من شهر. وفي أميركا نفسها، تتصدر اليوم منظمات حقوق الإنسان معركة الدفاع عن القيم الديمقراطية في وجه الانتهاكات والممارسات المسيئة التي تنتهجها إدارة بوش، مقترنة بعجز الكونجرس الأميركي عن محاسبة الإدارة على تلك الانتهاكات الصارخة. وكما رأينا في دولة أخرى هي ألمانيا، فقد رفع كل من "مركز الحقوق الدستورية" و"اتحاد محامي برلين الجمهوريين" إلى جانب خمسة مواطنين عراقيين، عريضة دعوى ضد دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي وخمسة مسؤولين أميركيين آخرين، بتهمة ارتكاب جرائم حرب والسماح بالتعذيب في العراق. وعلى حد قول المدعين، فقد أمر المدعى عليهم بارتكاب جرائم حرب، وساندوا تلك الحرب أو تواطأوا معها أو فشلوا في القيام بواجباتهم كمسؤولين مدنيين أو عسكريين إزاء منع حدوثها، أو منع مرؤوسيهم من ارتكابها، إلى جانب فشلهم في محاسبة أولئك المرؤوسين. ومن المعلوم أن القانون الألماني يعتبر كل تلك الأفعال جرائم ويدينها صراحة. وقد أوضح "بيتر فايز"، نائب رئيس "مركز الحقوق الدستورية" أن المركز قرر أن يتخذ إجراءً قانونياً إزاء تلك الجرائم، بعد أن فشل الكونجرس في إجراء تحقيق نزيه مستقل في تلك الانتهاكات، وبعد أن اتضح له عجز الحكومة الأميركية عن فتح أية تحقيقات جادة في هذه الانتهاكات، التي يشتبه في تورط عدد كبير من كبار المسؤولين فيها. أما في الأسبوع الماضي، فقد تمكن "اتحاد الحريات المدنية الأميركي" من إرغام وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، على الاعتراف لأول مرة بوجود وثيقة رئاسية سرية، وجه فيها الرئيس الوكالة بإقامة منشآت اعتقال تابعة لها، خارج الولايات المتحدة الأميركية، بل والاعتراف بانخراط الوكالة في ممارسات يعتقد الكثيرون أنها ممارسات تعذيب وقسوة على المتهمين المحتجزين في تلك المعتقلات. فهذه وغيرها نماذج من قوة الشعوب الصاعدة.