في الوقت الذي تبدو فيه الولايات المتحدة مشغولة بالكامل في أماكن أخرى، فإن جمهورية جورجيا تحولت إلى ساحة لمحاولات سافرة لتغيير الأنظمة على الطريقة الروسية. والرئيس الروسي فلاديمير بوتين يفترض أن الولايات المتحدة الغارقة حتى أذنيها في العراق، والتي تحتاج إلى دعمه في الملفين الإيراني والكوري الشمالي، لن تجعل موضوع جورجيا من الموضوعات ذات الأولوية، وأن ذلك سيكون موقف الاتحاد الأوروبي- بسبب حاجته للطاقة- أيضاً. والحقيقة أنه يمكن القول إن هناك الكثير من الأشياء المعرضة للخطر: فهدف بوتين الاستراتيجي الطويل الأمد هو خلق نطاق للسيادة والهيمنة الروسية في المناطق الشاسعة التي خضعت للاتحاد السوفييتي ولحكم القياصرة من قبله. وإذا ما نجح بوتين في إسقاط أكثر زعماء هذه المناطق استقلالاً وأكثرهم ميلاً للغرب في الفضاء الذي شغله الاتحاد السوفييتي السابق، فإنه سيكون قد قطع شوطاً طويلاً على طريق تحقيق هدفه. من الأشياء المعرضة للخطر أيضا "أجندة الحرية" الخاصة ببوش وكذا الاستقرار في منطقة القوقاز. والوسائل التي يتبعها بوتين تتميز بالتعسف حيث نفى 1700 جورجي منذ شهر أكتوبر كما شن حملة دهم على المشروعات التجارية المملوكة لجورجيين، ووصم الجورجيين بأنهم فئة مجرمة. ولم يقتصر بوتين على ذلك حيث ضاعف من أسعار البترول الذي يصدره لجورجيا كما قطع جميع الخطوط الجوية والبرية والبحرية والاتصالات البريدية لإحراج رئيسها "ميخائيل ساكاشفيلي". وساكاشفيلي البالغ من العمر 38 عاما يمثل تقريباً كل ما يجب على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي دعمه. فالرجل هو الذي قاد "الثورة الوردية" السلمية عام 2003، وهو الذي قام بعد ذلك بفتح بلاده أمام الاستثمارات الغربية، كما قاد عملية تحول كامل لاقتصاد كان ميئوساً من حالته. وعلى الرغم من أن تلك الإصلاحات قد شابها بعض جوانب القصور فإن مركز جورجيا تحسن كثيراً في آخر مسح أعلنه البنك الدولي بخصوص مستوى الإصلاحات السنوية في البلدان المختلفة متفوقة في ذلك على الكثير من الدول الأخرى. في عام 2004 استطاع "ساكاشفيلي" أن يسيطر سلمياً على "منطقة "أجارا" وهي منطقة من بين ثلاث مناطق رفضت- بتشجيع من موسكو- القبول بالحكم الجورجي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق عام 1991. وبعد أن بسط "ساكاشفيلي" سيطرته على "أجارا" فإنه يتطلع الآن إلى استعادة المنطقتين الباقيتين وهما"أوسيتيا الجنوبية" و"أبخازيا" التي يحكمهما نظامان مدعومان من قبل موسكو. وعلى الرغم من القرارات الدولية التي تؤكد على تكامل التراب الوطني لجورجيا، فإنه سيكون من الصعب على "ساكاشفيلي" استعادة أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية دون دعم قوي من الغرب. فبوتين سيكون مستعداً بل سعيداً للقتال من أجلهما مرة ثانية خصوصاً وأن ذلك سيتيح له الفرصة للإطاحة بساكاشفيلي. فالخلاف بين روسيا وجورجيا ليس استراتيجياً فحسب بل الحقيقة أنه ينطوي على أبعاد شخصية عميقة. يمكن القول إن الموضوع تحول إلى مواجهة سافرة بين الرجلين. وكانت المقابلات التي تتم وجها لوجه بين الرجلين تتسم عادة بالتوتر والغضب؛ فعندما قام الرئيس بوش بجمع زعيمي روسيا وجورجيا على هامش " قمة آسيا- الباسيفيكي" "إيبك" بالعاصمة الفيتنامية هانوي، فإن بوتين استشاط غضباً عندما تم فتح موضوع المناطق التي كانت تابعة لجورجيا. وعلى الرغم من أن ثورة غضبه قد بدت، وكأن المقصود بها هو سد الطريق على أي مناقشات إضافية حول هذا الموضوع، فإن معظم الأشخاص الذين سمعوا بوتين وقتها قالوا إن غضبه كان حقيقياً وشخصياً. وكانت الزيارة التي قام بها بوش العام الماضي إلى العاصمة الجورجية "تبليسي"، قد حققت نجاحاً كبيرا كما أكسبته شعبية لا يتمتع بها في أي مكان آخر. وبوش وساكاشفيلي يكنان وداً حقيقياً تجاه بعضهما بعضاً، علاوة على أن الرئيس الجورجي يحتفظ أيضاً بعلاقات وثيقة مع كل من السيناتور "جون ماكين" الذي جعل دعم الديمقراطية في الجمهوريات التي تشكل الاتحاد السوفييتي السابق موضوعه الرئيسي، وكذلك مع المليونير "جورج سوروس" الذي قدم لجورجيا مساعدات مالية في السابق. ولكن ما هو السبب في رد الفعل العالمي الخافت على سلوك بوتين الخارج عن حدود العقلانية؟ السبب في ذلك هو الموقف الحرج والذي تعرض للضعف الذي تجد واشنطن نفسها فيه الآن بسبب ما يحدث في العراق وإيران وأفغانستان وكوريا الشمالية. ولذلك يقول المراقبون إن اللحظة الحالية هي اللحظة المناسبة لبوتين وخصوصاً بسبب الارتفاع في أسعار النفط. حيث كان المألوف أن يكون بوتين هو المحتاج للولايات المتحدة أكثر من حاجتها إليه وذلك منذ سقوط الاتحاد السوفييتي السابق. الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يجب أن يجعلا من قضية حرية جورجيا واستقلالها وتكامل أراضيها محكاً للعلاقات بين الغرب وروسيا. كما يجب على بوتين أن يعلم أننا لن نضحي بمصالح دولة صغيره وضعت ثقتها في القيم الغربية من أجل إمدادات الطاقة أو من أجل ضمان عدم استخدامه لحق "الفيتو" في مجلس الأمن. وإذا ما كان لأقوال بوش عن الحرية أي أهمية، فإن تلك الأهمية يجب أن تظهر بالنسبة لجورجيا ليس في صورة دعوة من جانبه للجانبين- روسيا وجورجيا- لضبط النفس وإنما في صورة ضغط حقيقي على موسكو وتكوين جبهة موحدة مع الاتحاد الأوروبي لكي يوضح لبوتين أنه يجب أن يتوقف عن محاولاته لزعزعة استقرار جورجيا والإطاحة بـ"ساكاشفيلي". ففي زمن العراق يجب أن نظهر أن أمتنا تستطيع أن تستمر في ممارسة نفوذها في أماكن أخرى في العالم، وأننا لن نتخلى عن أصدقائنا ولا عن قيمنا. ريتشارد هولبروك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سفير أميركا الأسبق لدى الأمم المتحدة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة" لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"