موضوع الدولة بطبيعته واسع وغني، وبالتالي مشرع لكل الأسئلة والفرضيات. والمحك في كل ذلك هو المنهج العلمي. وموضوع الدولة السعودية، وتاريخها ليس استثناء. كتبت قبل أسابيع عن فرضية واحدة تتعلق بتاريخ هذه الدولة، وهي الفرضية التي تقول بأن الجذر التاريخي للدولة السعودية هو جذر اجتماعي سياسي قبل كل شيء. كان الحديث يدور في إطار سؤال محدد: لماذا نشأت الدولة السعودية في العارض؟ وكانت الإجابة أن السبب الرئيس الذي يفسر أكثر من غيره نشوء الدولة في هذه المنطقة هو الدرجة التي وصل إليها التحضر، والارتباط بالأرض فيها. كان هذا في المقالة الأولى. في الثانية، وهي مكملة للأولى، كان التركيز على فكرة أن تصدع القبيلة، وليس الشرك، هو السبب الرئيس وراء ظهور الحركة الوهابية. ماهي العلاقة بين الاثنين؟ أولاً أن الحركة، وكما ذكرت من قبل، كانت هي الحاضنة لفكرة الدولة السعودية في الجزيرة العربية. وثانياً أن تصدع القبيلة هو نتيجة طبيعية لدرجة الاستقرار والتحضر. الهدف واضح. فبما أن الحركة كانت الحاضنة لفكرة الدولة، فإن السبب وراء ظهور الحركة هو السبب نفسه وراء نشوء الدولة. ماهي المشكلة العلمية أو المنهجية في ذلك؟ ليست هناك مشكلة بغض النظر عن الاختلاف في الرأي حول الموضوع، إلا بالنسبة للدكتور فهد السماري الذي يصر على أن هناك رأيا واحدا يجب أن يتبناه الجميع حيال هذا الموضوع. والغريب أن الرأي الذي يريد فهد أن يفرضه على الجميع ليس رأيه هو، وليس من اجتهاده العلمي. وإنما هو رأي معروف، وله وجاهته التاريخية، ومع ذلك لا يجوز من الناحية العلمية أن يكون هو الرأي الوحيد. من هنا كان السؤال السابق منطلق ما كتبه الدكتور فهد في هذه الصحيفة تعليقاً على مقالتين لي حول الموضوع نفسه ونشرا في هذه الزاوية. طبعاً يسعدني أن يصبح ما كتبته موضوعاً للمناقشة، وللجدل العلمي. لكن ما أثار دهشتي أن مقالة الدكتور السماري بدت مرتبكة، ومن دون وجهة علمية واضحة. استند فهد فيها إلى ظنون وتهويمات لا علاقة لها بالمقالتين اللتين هدف إلى تصويبهما. لم يكن فهد في مقالته مناقشاً أو محاوراً علمياً، بل تقمص شخصية الداعية والموجه، أو كما قال "أدعو الأخ الدكتور خالد إلى الإنفكاك من هذا التنظير التعسفي والاتجاه إلى دراسة تاريخ الدولة السعودية بشكل معمق...". والأسوأ من كل ذلك أن مقالة فهد جاءت مناهضة للمنهج العلمي، بل وتجاهر بذلك. الفكرة المركزية لمقالة الدكتور السماري هي أنه يرفض بشكل قاطع رؤيتي حول سبب نشأة الدولة السعودية. وهذا من حقه أولاً كقارئ، وثانياً كمتخصص في التاريخ، وثالثاً كأمين عام لدارة الملك عبدالعزيز، أكبر مؤسسة بحثية في السعودية تعنى بتاريخ المملكة. بصفته الأخيرة يملك فهد من المصادر والمعلومات ما يفترض أنه يسمح له بالتقييم العلمي لكل ما يكتب عن تاريخ المملكة. لكن حقه في رفض ما يقوله الآخرون مشروط بواجب وهو أن يقدم أولاً المعطيات المنهجية التي يستند إليها في هذا الرفض، وأن يقترح البديل الذي يراه في هذه الحالة. وأخيراً أن يقدم رفضه بأسلوب علمي يحفظ للعلم روحه ومكانته، وأن يكون منفتحاً على طروحات غيره التي تختلف مع طروحاته، وأن يملك، قبل ذلك وبعده، الأريحية والقدرة والأفق الواسع على الدخول في حوار علمي منفتح على تلك الطروحات. مقالة الدكتور السماري افتقدت إلى كل هذه المواصفات. على العكس بدت من دون أفق علمي، ويضيق صاحبها ذرعاً بالاختلاف. لتفصيل ذلك أضع الملاحظات التالية مأخوذة من مقالته. مقالة الدكتور مرتبكة لأنها تقول الشيء ونقيضه في الوقت نفسه. فهو مثلاً يحتفي "بأية قراءة جديدة لأحداث التاريخ، خاصة إذا استخدمت في ذلك أدوات منهجية جديدة وتخصصات أخرى مساندة لعلم التاريخ مثل الاجتماع والاقتصاد وغيرهما..." من ناحية أخرى يقول "والخطورة في بعض القراءات الجديدة لبعض أحداث التاريخ من خلال منظور علمي اجتماعي أو اقتصادي، تتمثل في سيطرة التنظير من جهة، والتركيز على أحداث معينة تؤيد ذلك التنظير...". هو من ناحية يحتفي بالقراءة الجديدة، وبالاستعانة بالعلوم الأخرى. لكنه من ناحية أخرى يرى خطورة في أن تكون هذه القراءة من "خلال منظور علمي اجتماعي واقتصادي"، وخاضعة لـ"سيطرة التنظير". فاته أن التنظير هو الهدف الأساسي، والنتيجة الطبيعية للبحث العلمي. والتنظير يعني التفسير، وهدف العلم هو تفسير الظواهر والأحداث. فكيف يجوز له أن يرفض التنظير، هكذا. هنا يبدو الدكتور السماري ليس متأكداً من مصطلحاته. ربما لأنه لم تتح له فرصة ممارسة التنظير، أو أنه يفتقد لأدوات التنظير. الأمر أسوأ من ذلك. فهو يرفض الأسئلة "الجدلية"، كما يقول غير مدركٍ بأن السؤال هو بداية العلم، وأن كل عمل لا يبدأ بسؤال ليس عملاً علمياً. والعلم بطبيعته يبدأ بسؤال وينتهي بسؤال. لكن الدكتور يتحرك كما يبدو خارج الإطار العلمي. لأنه إلى جانب ذلك يرفض الجدل، غير مدرك مرة أخرى بأن الجدل هو روح العملية العلمية وطريقها للبحث، والتدقيق والتمحيص. عندما ترفض "السؤال"، وترفض "الجدل"، ثم ترفض فوق ذلك "التنظير"، فهذا يعني أنك مناهض للعلم وللمنهج العلمي. وأنت كذلك لأنك لم تعد النظر، وتسأل نفسك: إذا رفضت كل ذلك، فماذا يتبقى من العملية العلمية؟ لا شيء.وهذه كانت حالة مقالة الدكتور فهد. والمقالة مرتبكة لأن صاحبها لا يبدو ممسكاً بزمام موضوعه. لأنه لم يستبن بشكل واضح الفكرة التي يريد أن يدحضها، أو أنه استبان الفكرة، لكنه لا يستطيع التعبير عنها بأسلوب واضح ومباشر. من هنا كثيراً ما لجأ إلى تعبيرات تتسم بالتعميم وتفتقد للوضوح والدقة. مثل قوله "رؤى محددة" أو "أحداث محددة"، هكذا من دون أن يقول لنا ماهي هذه الرؤى والأحداث. ودونك تعبيره الآخر "تضخيم المصطلحات"، أيضاً من دون أن يذكر هذه المصطلحات، وما هو التضخيم الذي حصل لها. بل ما معني كلمة "تضخيم" في هذا السياق؟ كل ذلك وغيره يعبر عما ذكرت، من أن الدكتور فهد إما أنه ليس ملماً بالموضوع الذي تصدى له، أو أن التعبير خانه في الإفصاح عن هذا الإلمام. لكن ربما تكمن المشكلة في الأمرين معاً. يوضح ذلك أنه اختار فكرة "العلاقة بين الدولة السعودية وحركة مسيلمة الكذاب في صدر الإسلام"، وجعل منها الهدف المركزي لمقالته، وحاول جهده لتفنيدها، لكن ليس كل مجتهد مصيبا. لا أعرف من أين أتى فهد بهذه الفكرة. ولا أعرف على وجه الدقة لماذا لم يعبر عنها بشكل واضح ومباشر. لنرى ما قاله أولا وبالنص. ففي معرض حديثه يقول عن إجابتي بأنها جاءت "من خلال رؤية اجتماعية حددها (يقصدني أنا) بالمكان والقبيلة، واستخدم أحداث الدولة الإسلامية الأولى وحروب الردة التي ظهرت في اليمامة (الحروب لا تظهر، بل تحدث بفعل فاعل)، وظهور مسيلمة لإثبات تلك الرؤية. (ماهي تلك الرؤية؟). ثم قفز الدكتور إلى الدولة الأخيضرية ثم الدولة السعودية، ليقول للقارئ إن هناك ارتباطاً بين ما حدث في تلك القرون وما حدث في منتصف القرن الثاني عشر الهجري". إلى هنا ليس واضحاً ماذا يريد أن يصل إليه الدكتور فهد سوى شيء واحد، وهو أنني أرى، كما قال، إن هناك ارتباطاً بين ما حدث في تلك القرون وما حدث في منتصف القرن 12 الهجري. ماذا يقصد فهد بالارتباط هنا؟ أعود إلى ما قاله بالنص مرة أخرى، حيث كتب: "فقد اختار الدكتور قبيلة بني حنيفة محوراً لرؤيته المفسرة (لاحظ المبني للمجهول هنا) لنشأة الدولة السعودية، واستخدام ذلك للإشارة إلى وجود سابقة في قيام دولة عارضت دولة الإسلام مستندة إلى القبيلة والمكان. وأختزل الدكتور هنا أحداث الردة، ومواقف بني حنيفة في إطار غريب (لاحظ كلمة "غريب" هذه) ليدلل على صدق استنتاجه حول أسباب نشأة الدولة السعودية باعتبارها لا تمت للدين بصلة". هذا استشهاد مطول بالنسبة للمساحة المتاحة، لكنني سمحت لنفسي بإيراده للتدليل على ما ذكرته من أن فهد لم يستبن موضوعه بشكل واضح، وبالتالي لم يتمكن من التعبير عن فكرته بشكل مباشر. العبارة ألأخيرة من الاستشهاد توضح ما يريد أن يقوله، وهو أنني أرى أن نشأة الدولة السعودية "لا تمت للدين بصلة". وهذا قصور في فهم الدكتور، ليس فقط لما كتبته، بل لمفهوم الدين وعلاقته بالتحضر والاستقرار، ونشأة الدولة بشكل عام. وللحديث بقية. Classifications Comments and Actions Present in Collection Proofed. Originally received in RAPIDBrowser on Tue 28 Nov 2006 19:31 GST This item was derived from: د. خالد الدخيل/الأربعاء/29/11/2006