السلام لا يمكن أن يؤخذ أبداً على أنه أمر مسلّمٌ به، كما أن المسؤولية الأولى لأي حكومة هي توفير الأمن. وهذا هو السبب الذي يجعل فرنسا راغبة في المساهمة في منظمة سياسية عالمية مهمتها تجنب المخاطر. وفرنسا ترغب أيضاً في المساعدة في ممارسة المسؤولية المشتركة في إطار مؤسسات دولية قوية وشرعية ومقبولة، سيما من خلال إصلاح الأمم المتحدة ومجلس الأمن التابع لها، كما أنها تعمل من أجل عولمة منظمة تخدم الشعوب بشكل متناغم من خلال الالتزام بقيم العدل والتضامن، وتسعى في الآن ذاته لبناء أوروبا سياسية قادرة على الوفاء بمسؤولياتها الدولية في خدمة السلام. ونظراً لأن "حلف شمال الأطلسي" (الناتو) يلعب دوراً مركزياً في هذا المشروع، فإن فرنسا كانت حريصة خلال السنوات العشر الماضية على الانخراط في الجهد الرامي لتكييف الحلف وفقاً للحقائق الجديدة على الأرض، مع مساعدته في نفس الوقت على المحافظة على مهمته الأصلية. ولعل هذا تحديداً هو ما سيجعلني حريصاً خلال مؤتمر قمة الناتو الذي يعقد اليوم الأربعاء في "ريجا"، عاصمة لاتفيا، على أن أؤكد على الأدوار الأساسية للحلف كمنظمة عسكرية، وكضامن للأمن الجماعي لأعضائه، وكمنتدى يقوم فيه الأوروبيون والأميركيون بدمج جهودهم من أجل تعزيز السلام. ومن المعروف أن خطر نشوب حرب تعم أوروبا بكاملها قد اختفى، وأن "الناتو" قد تعرض بسبب ذلك لعملية إعادة نمذجة وتكييف واسعة النطاق، علاوة على توسيع مجاله بحيث يكون قادراً على استيعاب الديمقراطيات الجديدة في القارة. إلى ذلك، يقوم الحلف ببناء علاقة ثقة مع روسيا وأوكرانيا وكذلك مع الدول المرشحة للانضمام للاتحاد الأوروبي والواقعة غرب البلقان، انطلاقاً من إيمانه بأن تعزيز السلام والمحافظة عليه في القارة الأوروبية، يتطلب تجنب خلق خطوط انكسار جديدة. ولأننا نعيش في عصر حافل بالوعود، فإن بعض الناس يعتقدون أن الوقت قد حان لقطف ثمار السلام والتخلي عن الالتزامات التي كنا قد تقدمنا بها من قبل. إن ذلك لو حدث، فسيكون بمثابة خطأ جسيم من وجهة نظري، لأن تخفيض مستوى يقظتنا سيعني تجاهلنا لتهديدات الإرهاب، وتجاهلنا للاتجاهات القومية المتعصبة، وللرغبة التي تنتاب دولاً معينة في الانخراط في سياسات القوة بما يتناقض مع التزاماتها الدولية. إننا نحتاج الآن- كما احتجنا في الماضي- إلى حلف قوي متعاضد ومعدل وفقاً لتغيرات العصر. وهناك مقتضيات حيوية لهذا الحلف؛ أولها مصداقية جهوده العسكرية. وهذا هو السبب في أننا قد بدأنا بالفعل في إجراء عملية تغيير شاملة على القدرات العسكرية للحلف بهدف زيادة كفاءتها من جهة، وتهيئتها لرد الفعل واختزال الوقت اللازم لذلك من جهة أخرى. وفي مؤتمر "ريجا" اليوم سيتم الإعلان عن بدء عمل "قوة استجابة الناتو" بكامل طاقتها، وهي قوة ستوفر للحلف أداة عسكرية متعددة الجنسيات ليس لها مثيل. ومن الضروري أن تقوم كل دولة من الدول الأعضاء في الحلف بالموافقة على المساهمة بجهد دفاعي كاف، بعد أن اعتمدت تلك الدول طويلاً على حلفائها الأميركيين. يجب على الأوروبيين أن يتحملوا نصيبهم في ذلك من خلال العمل على جعل جهدهم الدفاعي الوطني متناسباً مع مستوى طموحاتهم، وما يتمنون تحقيقه للحلف وللاتحاد الأوروبي على حد سواء. إن هذا تحديداً هو ما تقوم به فرنسا باعتبارها من أوائل الدول التي شاركت في الحلف، إيماناً منها بأهمية التضامن بين جانبي الأطلسي. وتكييف عمل الحلف يعني تمكينه من العمل بيسر وسلاسة، وعلى قدم المساواة مع غيره من المنظمات الدولية الأخرى التي تتمتع بمهام، ونطاق مسؤوليات ووسائل تنفيذ محددة بدقة وبشكل واضح، خصوصاً في مجال إعادة البناء وتقديم المساعدات الإنسانية وتوفير الأمن للمدنيين. إن نجاح المجتمع الدولي في حل الصراعات سيكون هو محصلة مثل هذا التعاون، دونما حاجة للوقوع في ازدواجية لا داعي لها. وتكييف الحلف يعني أيضاً طرح إطار سياسي لعملنا. وفرنسا ترحب باعتماد "الدليل السياسي الشامل" الذي يحدد التوجيهات السياسية المتعلقة بعملية تحويل شكل الحلف خلال السنوات القادمة. والشيء نفسه ينطبق على العمليات التي انخرط فيها الحلف من أجل تعزيز السلام والأمن العالميين. ولتوفير شروط النجاح لذلك، فإنه يتعين علينا أن نعمل ضمن إطار استراتيجية شاملة، ومن خلال عملية سياسية واقتصادية واضحة المعالم. ونحن بحاجة في هذا الشأن إلى تأسيس "مجموعة اتصال" تضم دول المنطمة، كما تضم الدول الرئيسية المعنية والمنظمات الدولية. وهذه المجموعة التي يمكن تشكيلها على غرار المجموعة الراهنة في كوسوفو، ستتيح لقواتنا الوسائل اللازمة للنجاح في المهمة التي تقوم بها حالياً في أفغانستان والرامية لدعم السلطات الأفغانية، وإعادة التركيز على المهمة العسكرية للحلف. وتكييف الحلف يعني إلى جانب ما سبق تعزيز قدرته على العمل المشترك مع القوى الأخرى. لذلك يجب علينا أن نعمل على تعزيز علاقاتنا مع الدول الأعضاء في "مجلس الشراكة الأوروبية الأطلسية"، كما يجب علينا أن نكون قادرين على التشاور مع الدول الأخرى المساهمة في تلك القوة من غير الأعضاء في الحلف، وذلك في ظروف الكوارث، على ألا يصرفنا ذلك في جميع الأحوال عن المهمة المركزية للحلف. في النهاية، فإن تكييف الحلف يعني أن نأخذ في حسباننا الحقائق الجديدة للاتحاد الأوروبي الذي ينتمي غالبية أعضائه لحلف الأطلسي أيضاً. وأنا في غاية السعادة أن الأوروبيين قد حققوا تقدماً في شراء المعدات العسكرية من مصادر مشتركة؛ خصوصاً في مجال النقل الاستراتيجي وتدريب الضباط. ويجب علينا الآن التفكير في منح بعد دائم على أدواتنا الخاصة بالقيادة والعمليات الجماعية، وذلك من خلال مركز العمليات التابع للاتحاد الأوروبي. ومثل هذا التطور ضروري لأن مساهمة الاتحاد الأوروبي في عمليات دعم السلام تتزايد بشكل مطرد. وتعزيز قدرات أوروبا العسكرية وجعلها أكثر فعالية وأكثر ثقة في موجوداتها وأسلحتها، يعزز من قدرة الحلف بشكل عام، كما يساعد على تحقيق التوازن الدولي. والحقيقة أن حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، يكملان بعضهما بعضاً من أجل تحقيق مصلحتهما المشتركة. فعندما تستدعي الظروف أن يقوم الاتحاد الأوروبي بالعمل لأسباب جغرافية وتاريخية أو بحسب طبيعته، فإنه يجب ألا يتردد في الاضطلاع بنصيبه من المسؤولية حسبما تستدعي الظروف. هذا هو ما حدث في دول غرب البلقان التي وفر لها الاتحاد الأوروبي أمكانية الانضمام إليه، كما اضطلع بمسؤولية حفظ السلام بديلا عن حلف الأطلسي، كما هو حادث في مقدونيا والبوسنة والهرسك، وكما هو حادث أيضاً في كوسوفو التي سيرسل إليها الاتحاد قوة تضطلع بمهام شُرطية كي تمثل مكوناً رئيساً من مكونات التواجد الدولي في المراحل الحرجة في الحالات التي يتعرض فيها مستقبل المقاطعة للخطر. وفي لبنان نجد أن دول الاتحاد الأوروبي هي التي كونت العمود الفقري لقوات حفظ السلام المؤقتة الجديدة في الجنوب، بناء على رغبة المجتمع الدولي بأسره، وذلك للحيلولة دون اندلاع دورة جديدة من دورات العنف. وهذا التطور يستدعي حواراً استراتيجياً وسياسياً أكثر عمقاً بين الولايات المتحدة وبين الاتحاد الأوروبي، وهو ما يستدعي بالتبعية علاقة أكثر موثوقية بين "الناتو" وبين الاتحاد الأوروبي. وفرنسا من ناحيتها على استعداد للمشاركة في كل ذلك، ولكنها تريد أن يكون صوت الاتحاد الأوروبي مسموعاً داخل حلف الأطلسي، وهو ما يعني ضرورة قيام أعضاء الاتحاد الأوروبي بالتشاور فيما بينهم داخل الإطار العام للحلف. إن مثل هذا التطور سيساهم دون شك في تعزيز الحلف وزيادة قوته ومستوى تكاتف دوله وتعاضدها على نحو مطرد، وتحويله إلى حلف يكون فيه الأوروبيون والأميركيون الشماليون قادرين على صياغة وتشكيل أهدافهم سوياً، ومواصلة العمل جنباً إلى جنب، من أجل تحقيق السلام والأمن العالميين، بما يتماشى مع مبادئ وأهداف ميثاق الأمم المتحدة. جاك شيراك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رئيس جمهورية فرنسا ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"