علينا ألا ننخدع بأجواء الترقب التي تسود واشنطن هذه الأيام عشية إصدار "مجموعة دراسة العراق" لتقريرها عن حقيقة الوضع في بلاد الرافدين، بل علينا أن نفتح أعيننا على المناورة الجارية حاليا كما هي دون تمويه، أو مداورة. فليست المجموعة في الواقع سوى محاولة لصرف الانتباه عن التساؤلات الكبرى التي يثيرها فشل أميركا في العراق ودعم مؤسسة صناعة السياسة الخارجية التي قادت الولايات المتحدة إلى المستنقع العراقي. ولا يمكن النظر إلى هذه اللجنة التي تزعم أنها مشتركة بين الحزبين وتضم الحكماء من الرجال (وامرأة واحدة) على أنها تبحث فعلا عن الحقيقة، بل هي منخرطة في عملية التقليل من حجم الأضرار والخسائر والحد منها لا أكثر. أما الهدف النهائي للجنة فهو أمران اثنان يتمثل الأول في الحد من تأثير التجربة العراقية على الإجماع السائد في السياسة الخارجية الأميركية حول الاستمرار في التدخل الخارجي والسعي وراء تحقيق طموحاتها البعيدة. ويتجسد الهدف الثاني في قطع الطريق أمام أي توجه من قبل المواطنين العاديين إلى التدخل في أمور تم إقصاؤهم منها لفترة طويلة. فمجموعة دراسة العراق كما هي تعوزها الديمقراطية، إذ تريد تمرير خطاب ضمني إلى الأميركيين مفاده اتركونا نعالج المسألة وعودوا أنتم إلى التسوق. تشكيلة المجموعة تفضح هذا التوجه وهذه الاستراتيجية، فرئيسها جيمس بيكر، وزير الخارجية الأسبق والسياسي المشهور، ثم العضو السابق في الكونجرس لي هاملتون، فضلا عن باقي الأعضاء يدل بصورة واضحة على أن اللجنة لا تضم أيا ممن عرف بأفكار مخالفة لما هو سائد، أو اشتهر بميوله الخارجة عما دارج من التصورات. والأكثر من ذلك أن لا أحد من أعضاء اللجنة من السياسيين المنتخبين، أو عرف عنه معارضته للحرب في العراق. كما أن اللجنة تخلو من ممثلين عن المحاربين في العراق، أو عن أسر الضحايا الذين سقطوا في الحرب، وليس منهم أحد مختص في الإسلام، أو الشرق الأوسط. لذا فإن تكليف مثل هذه اللجنة بتقييم الوضع في العراق يشبه إلى حد كبير تكليف الكنيسة الكاثوليكية بالتحقيق في جرائم الاستغلال الجنسي التي تورط فيها بعض قساوستها. وحتى بدون تعليمات مباشرة يعرف أعضاء اللجنة الأسئلة التي يتعين عليهم تجنبها، والحلول غير المرغوب فيها. ولعل الباعث على الأسى أن التبجيل الذي يكنه الكاثوليك لهرمية الكنيسة، هو نفسه الذي يكنه الأميركيون لما يسمونهم "بالخبراء" في السياسة الخارجية. وتأتي مجموعة دراسة العراق لتقدم المثال الأوضح على ذلك حيث يبحث ناخبون مذهولون عن الهداية والإرشاد على يد مجموعة صغيرة من الخبراء لم ينتخبهم أحد، ولا تعكس آراؤهم سوى شريحة صغيرة تعمل وراء الكواليس. ويبدو أن حراس الوضع الراهن في السياسة الخارجية الأميركية والكارهين للتغيير الحقيقي يعولون على اللجنة لتخليصهم من المستنقع العراقي. والأهم من ذلك أنهم يعولون على اللجنة لتفادي التحقيق في الأسباب الحقيقية التي أدت إلى هذه المحنة. لذا لا تحلموا أبدا أن تثير اللجنة أسئلة من قبيل تداعيات الإدمان الأميركي المتزايد على النفط الأجنبي، أو مساءلة عقيدة الرئيس بوش بشأن الحروب الاستباقية، ولا مدى واقعية أجندته الديمقراطية التي يسعى إلى فرضها في العالم الإسلامي. وبالطبع لن تطرح اللجنة سؤالا واحدا عن الحرب المفتوحة ضد الإرهاب ومدى جدواها كرد على أحداث 11 سبتمبر. وستلوذ أيضا بالصمت المطبق إزاء الهفوات الفاضحة التي ارتكبها الجيش الأميركي في مرحلة التخطيط للحرب، ولن تتحدث عن الدور المخزي الذي لعبه الكونجرس الأميركي في الترخيص للرئيس بوش بشن الحرب والموافقة على خططه. وختاما سيقتصر دور "مجموعة دراسة العراق" على توفير الغطاء لإدارة الرئيس بوش لتغيير الطريق في العراق. كما ستساعد الكونجرس الديمقراطي على تأييد هذا التغيير من خلال مسرحية التعاون بين الحزبين، دون تحميل المسؤولية لأحد من السياسيين. والأكثر من ذلك أن اللجنة ستبقي جميع التصورات والأفكار الحالية التي قادت إلى الحرب في العراق كما هي دون مراجعة، أو نقد. وبقيامها بذلك تكون اللجنة قد ضمنت الحفاظ على عملية صناعة السياسة الخارجية في أيدي الخبراء مثل بيكر وغيره دون مشاركة حقيقية للشعب الأميركي. أندرو باسيفيك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية في جامعة بوسطن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"