ما زلت أتذكر كتاب "علم الخلية" الذي درسناه في كلية الطب، وكان محمد حرب أستاذنا يومها، وكان مبتدئاً في الفن يشرح مادته بكثير من الزهو والإعجاب، ولكن بين معلوماته ومعلوماتنا الحالية، مثل أسرار الهرم قبل كشف اللغة الهيروغليفية، أما معلوماتنا الحالية وما ينتظرنا بعد أن كشف "كريج فنتر" عن كامل الكود الوراثي في الإنسان، وجهد العلماء في كشف كل الكودات الوراثية- التي هي الشيفرة السرية لخلق الكائنات- فهي رحلة ثلاثة قرون على الأقل، لأن تنظيم الضغط الدموي لوحده يحتاج إلى أوركسترا من 200 جين على الأقل، كما أن جينات الدماغ التي كشفت حتى الآن تجاوزت الألفين. وكان إعجابنا بدون حدود بما كشف عنه الثنائي "كريك" و"واطسن" عن تركيب الشيفرة الوراثية، وعرفت من معلومات لاحقة، أن الفضل يعود في هذا لسيدة جليلة هي "روزاليند فرانكلين" التي دشنت التقنية المناسبة لمعرفة تركيب أسرار باطن النواة، ثم سرق جهدها لينال الثنائي جائزة نوبل، ولتحصد هي الموت بسرطان الثدي، متأثرة على الأرجح بالأشعة السينية التي كانت تستخدمها في أبحاثها لمعرفة السر المغيب، عن الخلق الإلهي في أعماق الخلية. ومما تعلمناه يومها أن الحمض النووي نوعان العادي (RNA) ومنزوع الأكسجين (DNA) الذي تصطف الجينات على امتداده، وهي محطات لإرسال التعليمات، يبلغ عددها 140 ألفاً من الأوامر في تشكيل الجسم في أحسن تقويم، على جسر يحمل ثلاثة مليارات حمض نووي، لو بسط طوله لوصل قريباً من المترين، وهو مضغوط على نحو مجهري لا يرى بالعين المجردة، في نواة كل خلية، مكرراً سبعين مليون مليون مرة في جسمنا الذي يضم عشرات الأجهزة، في 210 أنواع من الأنسجة. وما تعلمناه- وثبت خطأه الآن- أن العلاقة بين الحمضين النوويين (DNA&RNA) هي مثل السيد والخادم، السيد هو منزوع الأكسجين (DNA) يعطي الأوامر، وليس أمام الحمض النووي (الخادم) إلا تنفيذ الأوامر فينسخ ما شاء له النسخ من الحمض النووي (السيد) في نواة الخلية، من خلال انشقاقات طولية، تفصح عن خطوطها السرية، وهي عملية شبهها بعض البيولوجيين بالتنفس، حيث تتشقق طولانياً، وهي كما وصفها من اهتدى لتركيبها في ستينيات القرن الفائت، تشبه السلم الملفوف، من عمودين ممتدين مثل عقد نبات قصب السكر، تصل بينهما جسور من السكر الخماسي. وهذان العمودان هما سلسلة لا تنتهي من لغة مكونة من أربعة حروف، هي أربعة أحماض نووية تتكرر عشوائياً، ولكن كل امتداد وتتابع هو مثل الحروف في اللغة، وبتغيير المواضع تتغاير المعاني مع تغيير المباني، الحروف الأربعة تمثل أربعة أحماض نووية هي: السيتوزين والثيمين والأدنين والغوانين، ويرمز لها اختصاراً بـ(ACGT). وحيث تتابع الحروف تتولد المعاني مثل (AAACCTTT) أو (CTTAGG)، وهي تذكر بلعبة اللغة وأسرار معانيها، فمثلاً كلمة "كفر" تذكرني بلوحات السيارات، فيمكن من كلمة "كفر" اشتقاق أربع كلمات ذات معنى على الأقل من أصل ست كلمات هي: الأربع الأولى (كفر- كرف- فكر- فرك- ركف- رفك). ومن الملفت للنظر أنه من كلمة "فكر" يخرج "كفر"، وهو انقلاب خطير في المعاني, وكذلك الحال في التراكيب البيولوجية الجينية والأمراض الوراثية، فيكفي انقلاب في جذر الهيدروكسيل لكي يتحول الترياق إلى سم وبالعكس. كانت المعلومات عن الحمض النووي الرسول أنه ينقل نسخاً مشتبهة حذو القذة للقذة ولكن اثنين من العلماء هما "اندرو فاير" و"كريج ميللو"، استطاعا كشف اللثام من خلال جهد استغرق تسع سنوات عن أن الحمض النووي يقوم تقريباً بكل شيء من النسخ والصناعة بل وتعطيل الفيروسات والجراثيم والمواد الضارة... فهو الملاك الذي يحمينا دون أن نحس. ونال العالمان جائزة نوبل للكيمياء والطب في سبتمبر 2006. وهذا يعني انقلاباً في التفكير والأبحاث، وحالياً يقوم من برلين "فولكر ايرد مان" بتأسيس شركة خاصة لأبحاث الحامض النووي الرسول (RNA) باسم "تكنولوجيا شبكة الحامض النووي الرسول"، وتتسابق إليه أكثر من تسعين شركة يابانية للاستثمار في مجال الأبحاث الجديدة. وهكذا فهذا هو عصر الحمض النووي الرسول، الذي ينتظرنا بعد هذه المعلومة الجديدة في الشفاء من أمراض شتى!