المجموعة الأولى من الصور التلفزيونية المتلاحقة التي ظهرت غداة عيد الشكر هذا العام كانت للمذبحة المريعة التي وقعت في مدينة الصدر ببغداد ولقي فيها 200 مدني عراقي مصرعهم في مجموعة من العمليات الانتحارية المنسقة.. في حين كانت المجموعة الثانية منها لطوابير طويلة من السيارات الواقفة والتي يقودها أميركيون من هواة الشراء في العطلات وقد اصطفت على امتداد الطرق الرئيسية المؤدية إلى المراكز التجارية "المولات" التي فتحت أبوابها للبيع في منتصف الليل في ذلك اليوم. من بين تلك المراكز التجارية مركز" وال مارت" الشهير في مدينة " يونيون" بولاية نيوجرسي والذي كان مطوقاً بجموع غفيرة من المتسوقين حتى قبل أن يفتح أبوابه في الخامسة من فجر يوم الجمعة الماضي. وعندما سألت عن سبب هذا الزحام غير العادي قال لي أحد الموظفين: "كل ما أستطيع قوله لك هو أن الجميع متحمسون للشراء للغاية، وعلى استعداد لإنفاق النقود". لاشك أن هناك خطأ جسيماً عندما تتزاحم أمامنا على شاشة التلفزيون صور لأميركيين سعداء مدججين بالدولارات وهم يقتحمون الاستحكامات المقامة حول مراكز شراء شهيرة في المدن الأميركية، وصور أخرى لمدنيين عراقيين تعساء ومنهم مسنون وأطفال يلقون مصرعهم بالعشرات في مذبحة بشعة في بغداد. هذا الخطأ يرجع في رأيي إلى أنه على الرغم من أن الولايات المتحدة هي التي بدأت الحرب على العراق، إلا أن المواطنين الأميركيين لا يشعرون بمسؤولية شخصية عن تلك الحرب. فنظراً لأن الأميركيين لم يكن لهم نصيب من المسؤولية عن شن الحرب على العراق فإننا نجد أن معظمهم لا يبدي أي اهتمام بعواقبها وتداعياتها. وقد قمت بإجراء عدة مقابلات مع بعض الشباب الأميركي الأسبوع الماضي وتأكدت من ذلك. أحد هؤلاء الشباب كان يدعى "أليكس راتشيوتيس" (19 عاماً) ويدرس التاريخ في جامعة "ويزليان" في كونيكتيكت وقد قال لي: "أنا لا أعرف أي أحد لديه الرغبة في الذهاب إلى العراق للقتال هناك. ما هو أكثر من ذلك أنني أشعر بأنه ليس هناك أي أحد في جامعتي يفكر في تلك الحرب على الإطلاق، فهم أكثر اهتماماً بالعلامات التي حصلوا عليها في آخر اختباراتهم". وآراء هذا الطالب تماثلت مع الآراء التي سمعتها من طلاب آخرين منهم "جون كافاريلي" البالغ من العمر 19 عاما ويدرس بجامعة "نيوهمبشاير" الذي قال لي عندما سألته عما إذا كان هناك أحد من أصدقائه يرغب في الانضمام للجيش: "لا .. لا يوجد أحد بالتأكيد... ليس هذا فحسب بل إنني أعتقد أنه لا أحد من زملائي يهتم مجرد اهتمام بما يجري في العراق". وهذا النوع من اللامبالاة واسع الانتشار في الحقيقة ولكنه يمكن معظم الأميركيين من الانصراف إلى شؤون حياتهم اليومية دون أن يأبهوا على الإطلاق للفظائع الناتجة عن حرب يشن باسمهم. وفي الوقت الذي يتزاحم فيه المتسوقون على مراكز التسوق في أميركا خلال العطلات من أجل شراء أجهزة تلفزيون ذات شاشات مسطَّحة عملاقة أو شراء آخر نسخة من "البلاي ستيشن" لأبنائهم، فإن الأنباء القادمة إلينا من بغداد هي أنباء عن مجتمع على وشك التداعي والانهيار. فوفقاً للبيانات التي أعلنتها الأمم المتحدة فإن عدد العراقيين الذين لقوا مصرعهم خلال شهري سبتمبر وأكتوبر الماضيين بلغ 7000 شخص منهم 5000 في منطقة بغداد وحدها وهو رقم مذهل في الحقيقة. وليس هذا فحسب بل إن الشيء الذي يؤدي إلى انخفاض المعنويات إلى حد كبير هو أن الحياة في العراق الآن أصبحت شبيهة بالحياة تحت نظام "طالبان". فقد جاء في تقرير للأمم المتحدة ما يلي: إن أوضاع المرأة في العراق استمرت في تدهورها. فهناك في الوقت الراهن عدد متزايد من النساء العراقيات اللواتي يُسجلن على أنهن إما ضحايا للمتطرفين الدينيين أو ضحايا للقتل لأسباب تتعلق بالشرف... وليس هذا فحسب بل إن الأمر قد وصل إلى حد إجبار النساء غير المسلمات على ارتداء الحجاب ومنعهن من الخروج إلى الشارع ما لم يكنَّ بصحبة أزواجهن أو أحد أقاربهن من الذكور. أي أن العراق يحترق... ونحن نتسوق! أما الأميركيون الذين يموتون في العراق فإن الصحف لم تعد تذكر شيئاً عنهم تقريباً. وإذا ما حدث ذلك فإنه يكون من خلال جملة في تقرير طويل عن الوضع في بغداد مما يرد في الصحف أو في إشارة عابرة قد لا تتجاوز ثواني معدودات في نشرة أخبار تلفزيونية تتعلق بآخر التطورات السياسية. ونظراً لأن الأغلبية العظمى من الأميركيين لا يريدون أن يربطهم أي شيء بالجيش أو بالحرب، فإن عبء القتال هناك أصبح يقع على كاهل الجنود المتطوعين الذين يتم إرسالهم إلى مناطق القتال المرة بعد المرة. وهؤلاء الجنود قُتل منهم حتى الآن 3000 جندي وتعرض عدة آلاف منهم للإصابات والتشويه. لقد مضى على اندلاع الحرب في العراق حتى الآن عدد من السنوات يماثل تقريباً عدد السنوات التي اشتركت فيها أميركا في الحرب العالمية الثانية.. ولكن الفارق بالنسبة للحرب الحالية أنها تفتقر إلى ذلك الشعور بالرغبة في التضحية الجماعية من قبل المواطنين كما تفتقر إلى الشعور العام بالاستعداد لتحمل عبء المسؤولية عنها. إن الجنود الموجودين في العراق يحاربون ويعانون ويموتون في حرب ليست لها أهداف واضحة ولا تلوح لها نهاية قريبة في الأفق، ولا يؤيدها غالبية الأميركيين.. للأسف. إنهم يموتون في صمت وبدون هدف في حين أن باقي أفراد الشعب الأميركي قادرون في أي وقت على ربط أحزمة مقاعد سياراتهم العائلية وقيادتها إلى المراكز التجارية.. للتسوق. بوب هربرت كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"