ضمن حوار حول الملف السياسي في مشروع الإصلاح العربي (السوري نموذجاً) جرى بين مجموعة صغيرة من المثقفين والصحفيين والمفكرين في أحد المقاهي السورية، برزت معضلة فكرية منهجية، وأفصحت عن حالة سُكت عنها في أوساط ثقافية سورية وعربية عامة، تلك هي المتمثلة في السؤال التالي: هل إذا استعاد المجتمع العربي -في معظم تجليّاته- ما سُلب منه على أيدي النظام الأمني، خصوصاً السياسة والفعل السياسي والمجتمع السياسي، يصبح في حِلٍ من الإصلاح الديني؟ ولعلنا نجد سؤالاً آخر يسهم في إيضاح ذلك السؤال وفي ضبطه، وينسحب على قطاعين آخرين، وذلك هو التالي: هل إذا أسَّسْنا لاقتصاد وطني متقدّم وقائم على مبدأ العدل في توزيع الخيرات المادية على المواطنين، يمكن أن يُسقط التشدد الديني الأصولي في أوساط من الفقراء والمفقرين والعاطلين عن العمل؟ ففي السؤال الأول، نضع يدنا على وجهة نظر يُعلن أصحابُها أن ظاهرة الارتداد الأصولي المتجليّة في نزعة التكفير الظلامية إنْ هي إلا حالة طارئة تأتّت من سحب السياسة في المجتمع المعني (العربي) وسدّ هذا الأخير المنافذ على الناس، بحيث إن استعادته هذه للسياسة قمينة بأن تعيد الأمور إلى نصابها. كما يتضح من سياق الأفكار الأخيرة، تُفصح عن نفسها صيغة من العلاقة الميكانيكية المباشرة بين المجتمع والسياسة والنزعة الأصولية المتشددة، وهذا يمثل خطأ معرفياً ومنهجياً. فإذا كان من المحتمل أن تكون نشأة هذه النزعة في المجتمع العربي قد اقترنت -بقدْر ما على الأقل- بنشأة الشرخ العظيم بين الأثرياء والفقراء، فإن انحسار هذا الشرخ أو تضاؤله في نطاق عملية إصلاحية ما، لا يُفضي بالضرورة وتلقائياً إلى سقوط النزعة المذكورة، ذلك لأن الأمر أصبح أكثر تركيباً وتعقيداً في ضوء معرفة أن عناصر جديدة دخلت العلاقة المذكورة، وأنتجت آلية خصوصية ومنطقاً خاصاً بها، بقدْر أو بآخر. وهذا، بدوره، يسمح بالقول برفض الإقرار بتبعية قاطعة تقوم بين الذهني والسياسي، وبين الذهني والاقتصادي. كما يسمح ذلك -من طرف آخر- بالوصول إلى أطروحة أقرب إلى المصداقية المعرفية والمنهجية، وتنطلق من أن تجاوز النزعة الأصولية المتشددة التكفيرية في الحقل الديني يشترط تجاوز الحامل الاقتصادي عبْر حامل اقتصادي آخر يرتكز إلى مبدأ العدل في توزيع الثروة المجتمعية، ولكن في سياق القيام بإصلاح ديني تنويري يتعرّض للأسس النظرية والمنهجية الكامنة وراء بنية النزعة المذكورة والفاعلة فيها. من هنا، فإنه من القصور المعرفي والمنهجي تبسيط الأمور على نحو مُجحف والقول بإلغاء الملف الإصلاحي الديني أو بإمكانية إلغائه، لأن إصلاح الحال الاقتصادي المعاشي يكتمل بإصلاح الحال العقلي والنفسي والقيمي. نلاحظ أن "إصلاحاً دينياً" يمثل شرطاً ضرورياً لكل نهوض في مجتمع يشغل الدين فيه حيزاً كبيراً، بما في ذلك التيارات والمدارس ووجهات النظر الدينية، ومنها بصورة خاصة تلك التي ظهرت تعبيراً عن التشدّد والتعصب وعن النزعة التكفيرية الإقصائية. إذ في مثل هذه الحال، يطرح السؤال التالي نفسه على الفئات الاجتماعية الحية والمتوافقة مصالحُها ومنظوماتها النظرية والقيمية مع التقدم التاريخي والحراك السياسي والثقافي وغيره: كيف يكون الدين الحنيف الإسلامي والمسيحي، خصوصاً، محفِّزاً للناس في حياتهم بمختلف مظاهرها، ومن ثم، كيف يمكن فهمه وقراءته على هذا النحو وفي هذا الاتجاه؟ وتتعاظم أهمية هذا السؤال، مع ظهور وتعاظم النزعات الأصولية التشدّدية والتكفيرية في المجتمع العربي، إلى درجة الدعوة إلى التأسيس لمشروع إصلاحي ديني يحقق شرائط العقلانية والحداثة والتعددية والتنوير. ومعلومٌ أن النص الديني، وضمنه الإسلامي والمسيحي، قابل لأنْ يُقرأ قراءات متعددة (وهذا يُعتبر في المنظور الديني رحمة إلهية بالناس، كي لا يجدوا أنفسهم أمام احتمال واحد يحاصرهم أو يضيّق عليهم: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة"). على هذا الأساس وبمقتضي اشتراطاته، نشأت حركات الإصلاح الديني المسيحي في أوروبا الحديثة، والإسلامي المسيحي في العالم العربي الحديث. وقد تجسّد ذلك بخطوات كبرى في العالم الأخير كان على رأسها رجال من طراز الإمام محمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي وعبدالحميد الزهراوي ورشيد رضا وهزيم أغناطوس والمطران خضر وسليم البستاني وغيرهم. ولعل الإصلاح المذكور يجد نفسه مدعواً إلى تحقيق عدة مهمات في سياق واحد، هي التنوير والعقلانية والنهوض، وذلك عبر إنجاز قراءة معاصرة للنص الديني تنتمي إلى الأرض الحيوية المتحركة والمفعمة بهموم الناس ومصالحهم، أي قراءة تسهم بالإجابة عن مشكلات العصر بروح متوهجة في أقصى الأمر، أو قراءة تحول دون تحويل النصّ إلى كابح للتقدم ومنتج لصراعات دينية ومذهبية في حدّه الأدنى. إنها -إذاً- نزعة ميكانيكية خاطئة ومبسّطة أن يقول البعض إن السياسة إذا ما أعيدت للمجتمع العربي (والسوري ضمنه)، فإن النزعة الأصولية التكفيرية تتفسخ تلقائياً، دونما إصلاح ديني فاعل.