في الأسبوع الماضي كتبت في هذه الصفحة مقالة عنوانها: "من أجل المقاومة ولبنان معاً"، وقد ناشدت خلالها معسكر المقاومة، والذي أحسب نفسي ضمن صفوفه، أن يوقف تصعيده عند حد استقالة الوزراء الشيعة الخمسة من مجلس الوزراء اللبناني، باعتبار أن هذه الاستقالة من حقهم دستورياً، طالما أنهم لا يرضون عن سياسة الحكومة الحالية، وبالتالي من غير المنطقي أن يشاركوا في تقديم غطاء لها، أما النزول إلى الشارع -وكان الخيار التالي لمعسكر المقاومة وحلفائها- فهو محمّل بمخاطر كثيرة، تنبع من أن هذا المعسكر مهما بلغت قوته السياسية لا يسيطر وحده على الشارع اللبناني الذي تشاركه في السيطرة عليه -وإن بدرجات متفاوتة- قوى لبنانية وطنية أخرى، ناهيك عن قوى محلية وعربية وإقليمية وعالمية... قادرة على ممارسة التخريب في الساحة السياسية اللبنانية. ومن ثم إدخال لبنان في دوامة أزمة داخلية جديدة، قد تنفجر مسببة أضراراً بالغة... سيحسب على "قوى التغيير" في مواجهة قوى "الوضع الراهن"، أو قوى المقاومة وحلفائها في مواجهة "قوى الرابع عشر من آذار". استشهدت تحديداً بحديث البعض من خصوم المقاومة وحلفائها، عن أن "جهات معينة سوف تلجأ إلى اغتيالات سياسية لمفاقمة الموقف، كأنها تحرض على وقوع أعمال كهذه". وفي نفس اليوم الذي نشرت فيه المقالة، وقعت جريمة اغتيال وزير الصناعة اللبناني بيير الجميل، المنتمي إلى تحالف "الرابع عشر من آذار"، لتضيف مزيداً من الاحتقان إلى موقف لا ينقصه التأزم. كانت النتيجة الأولى لهذه الجريمة، بطبيعة الحال، هي إرباك البرنامج الحركي لمعسكر المقاومة وحلفائها؛ فلم يعد وارداً لدى هذا المعسكر أن يبقي "ساعة الصفر" المحددة لبدء نزوله إلى الشارع، على ما كانت عليه، ولو من قبيل الملاءمة وإعادة تقدير الأمور. وبالمقابل يلاحظ أن قوى الأكثرية البرلمانية وحكومتها -بعد أن كانت تحسب خطاها بحذر- بدت أكثر جرأة في تصعيد الأزمة السياسية، وكأنها تعلم أن جريمة اغتيال الجميّل أوجدت لها واقعاً أفضل في الساحة السياسية اللبنانية، فكان الإصرار على عقد جلسة لمجلس الوزراء يقر فيها النظام الأساسي للمحكمة الدولية الذي وافق عليه مجلس الأمن، رغم موقف رئيس الجمهورية الذي كان معترضاً في الأصل على دعوة الحكومة لإقرار نظام المحكمة الدولية، نظراً لتجاهل التشاور معه بشأنها، ثم اتخذ من استقالة الوزراء الشيعة مبرراً إضافياً لاعتراضه، معتبراً أن الحكومة فقدت شرعيتها الدستورية استناداً إلى مقدمة الدستور اللبناني التي تنص على أنه "لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك"، والذي اختل بفعل خروج الوزراء الشيعة جمعيهم من الحكومة، وكذلك استناداً إلى المادة 95 من الدستور التي تنص على أن "الطوائف تمَثل بصورة عادلة في تشكيل الوزارة". يعني ذلك أن لبنان مقبل لا محالة على أزمة دستورية حقيقية تضيف إلى الاحتقان السياسي الراهن، خاصة وأن قوى الرابع عشر من آذار سارعت كعادتها إلى إلقاء مسؤولية الجريمة على النظام السوري، باعتبار أن الجريمة جزء مما تعتبره محاولات من قبل ذلك النظام لإعادة نفوذه في لبنان والقيام بـ"انقلاب سياسي" يحقق هذه الغاية! وبغض النظر عن مدى صحة ادعاءاتها هذه، فإن المنطق المضاد يرى، على العكس من ذلك، أن معسكر المقاومة وحلفائها، بمن فيهم سوريا، هو أول المتضررين من الجريمة؛ فهي تزيد من الحاجة إلى المحكمة الدولية التي يتحفظ هذا المعسكر على تفاصيلها، وإن لم يعترض عليها من حيث المبدأ، وتربك خططه في النزول إلى الشارع لإجبار قوى "الرابع عشر من آذار" على القبول بحكومة وحدة وطنية أو انتخابات تشريعية مبكرة، وتحمله بمزيد من الاتهامات على الأقل بخصوص المسؤولية عن زيادة احتقان الشارع السياسي في لبنان. هل من سبيل إذن إلى وقف هذه الأزمة المتصاعدة حتى الآن، وهي تنذر بانفجار قد يكون قريباً، وإن لم يكن متعمداً؟ الواقع أن الحل في تقديري يبدأ من وجوب إقرار كافة الأطراف اللبنانية المتنازعة بأولوية السلم الأهلي في لبنان على كل ما عداه، وأنه لا أحد يضمن -مع استمرار الاحتقان والتصعيد السياسي الراهن- أن يبقى هذا السلم في مأمن ممن يريدون به شراً، سواء من قوى محلية لبنانية محددة أو من أطراف خارجية لها خططها المعروفة تجاه لبنان. في إطار السلم الأهلي يمكن أن تتم إعادة صياغة المعادلة السياسية اللبنانية، وفقاً للقواعد الديمقراطية التي لا يمكن لأحد أن يختلف عليها، والتي أعتقد أنها ستحقق في النهاية مطلب معسكر المقاومة وحلفائها في ترجمة الأوزان النسبية السياسية الواقعية داخل الساحة اللبنانية إلى حقائق محددة في مؤسسات الحكم اللبناني. وأول خطوة في هذا الصدد، هي محاولة العودة للحوار الوطني مهما كانت الصعوبات التي تعترضه، ومنطق هذه العودة أنها السبيل الأهم للحفاظ على السلم الأهلي اللبناني، وبدون هذا الحوار ستصبح حكومة الوحدة الوطنية التي يطالب بها "حزب الله" وحلفاؤه، بدون معنى؛ فلا حكومة وحدة وطنية بلا برنامج سياسي متفق عليه بين كافة الأطراف يتضمن مواقف محددة من كافة القضايا السياسية اللبنانية الرئيسية، وإلا أصبح مجلس الوزراء أشبه بمجلس الأمن إبان مرحلة الاستقطاب الدولي، أي مجلساً فاقداً للقدرة على الحركة والفعل، ومن ثم ستترسخ الأزمة السياسية اللبنانية بدلاً من أن تُحل. وبدون هذا البرنامج ستبدي قوى "الرابع عشر من آذار" كل مقاومة ممكنة لفكرة حكومة الوحدة الوطنية، بما في ذلك الاستعانة بحلفائها الخارجيين، لأنها في ظل حكومة الوحدة الوطنية وفقاً لمبدأ "الثلث المعطل"، وبدون برنامج سياسي متفق عليه، ستبدو وكأنها فقدت بالفعل موقع الأكثرية الذي تتصور أنها تمثله دون أن يستجاب لمطالبها في قضايا أخرى على رأسها تلك المتعلقة بموقع رئاسة الجمهورية وموضوع المحكمة الدولية. فإذا استحالت العودة إلى الحوار الوطني، لن يبقى أمام الجميع إلا الترتيب لقانون انتخابي جديد يمكن عن طريق تطبيقه تعرّف الخريطة السياسية الحقيقية في لبنان بحيث يكون بداية لعملية تغيير في لبنان؛ تشمل مجلسي النواب والوزراء وموقع رئاسة الجمهورية معاً. وفي النهاية فإنه من الضروري على الصعيد اللبناني أن يبقى ساسة لبنان، مهما كانت خلافاتهم، حريصين على تجنيبه ويلات أية أزمات تعصف بالسلم الأهلي، خاصة في ظل الظروف المتفاقمة حالياً، وبالنظر إلى زيادة الاضطراب وعدم الاستقرار في المنطقة. وعلى الصعيد العربي لم يعد العرب بحاجة إلى مزيد من الجراح الدامية التي باتت تثخن جسد الأمة في غير موقع، وبالأخص في أقطار بوزن فلسطين والعراق والسودان، وقد كان لبنان دوماً؛ بصيغة عيشه المشترك، من خلال تنوعه المتفرد، وقدرته على التصدي الجسور لمواسم التوحش الصهيوني... أعز على العرب مما يتصوره كثير من اللبنانيين. فمن يتقدم من داخل الساحة اللبنانية، أو الساحة العربية، كي يكسر الحلقة المفرغة؟