كان الجميع في بغداد يتحسسون ويشعرون بالاستفزاز كلما سمعوا إشارة إلى الحرب الأهلية. الذين تسلموا الحكم من سلطة الاحتلال اعتبروا أنفسهم ضمانة أكيدة ضد احتمال هذه الحرب، وهم يتبرؤون الآن من أي مسؤولية بعدما وقعت الواقعة. أما الأميركيون والأوروبيون والعرب، فاختاروا أن يتفرجوا على وقائع هذه الحرب وهي تتصاعد وتتفاقم، لا أحد يملك أن يوقفها، لا أحد يملك أن يحسمها، ولم يعد هناك سوى الانتظار إلى أن يمضي منطق الحرب إلى أقصاه، ظناً منهم أنه عندئذ فقط يمكن طرح حلول للمستقبل، فهذه الحلول تتعذر إذا لم ترتوِ بدماء مئات الآلاف من الضحايا. أراد المحتلون الأميركيون أن يكون العراق نموذجاً للمنطقة، وعلى افتراض "حسن النية"، ولو بصعوبة، فإنهم فشلوا في بناء هذا النموذج. لكن الأكثر عقلانية هو اعتبار أن تعميم الحروب الأهلية أكثر تحقيقاً للمصالح الأميركية، إذ أن إشغال المنطقة وأهلها بأنفسهم هو أفضل طريقة لاحتوائهم وإدامة الهيمنة عليهم، بل لعله أفضل ثأر بعد هجمات 11 سبتمبر 2001. مع ذلك كانت المغامرة مكلفة جداً لأصحابها في واشنطن، إنها فيتنام بطبعة عراقية لها خصوصيتها، وفي منطقة لا تحتمل الولايات المتحدة أن تفشل فيها. الأسباب نفسها التي صنعت الفشل في العراق هي التي تصنع الفشل في مواقع أخرى، وتقترب من إشعال حروب أهلية هنا وهناك. فالمستفيدون من غزو العراق هم الذين يديرون مشاريع تلك الحروب سواء في لبنان أو في فلسطين، إذ أدرك هؤلاء الأخطاء التي ارتكبها الأميركيون، والخلل الذي انتاب سياساتهم، فوجدوا السبل الكفيلة باستدراج الدولة العظمى إلى الفخ. وكان أفدح تلك الأخطاء تجاهل حقائق المنطقة ومجتمعاتها، واحتقار الحقوق، وعدم البحث عن حلول متوازنة. منذ اليوم الأول كانت الحرب الأهلية في العراق استحقاقاً مؤكداً، لا ينكره سوى الساعين إلى تحقيق غاياتهم من الغزو الأميركي، بمعرفة الأميركيين وتواطئهم، أو في غمرة نشوتهم بالنصر وسهولة عملية الغزو. أما في لبنان، حيث لا تزال الحرب الأهلية تحت الرماد، فليس من الضروري أن تنشأ مجدداً خطوط التماس والجبهات، لأن المناخ مناخ انقسام حاد لا يحسم إلا بالسياسة أو بأن يبسط الطرف الوحيد المسلح سيطرته ويخضع الآخرين. إذ أن الخيارات الأميركية- الإسرائيلية هي التي عمقت هذا الانقسام وجعلت "حزب الله" ينتفض للدفاع عن وجوده ضد من يعتبر أنهم أعداء داخليون يعملون بتوجيهات أميركية وليسوا مواطنين لديهم طموحات وطنية مختلفة. وفيما تدافع واشنطن عن الحكومة المنتخبة في لبنان، مستثيرة الطرف الآخر ضد هذه الحكومة، فإنها لم تعترف بحكومة "حماس" المنتخبة في فلسطين، واختارت أن تجوِّع الناخبين الذين اختاروها بل ارتضت وضع الشعب الفلسطيني كله تحت حصار إسرائيلي وحشي. وحتى في دفاعها عن الرئاسة الفلسطينية المتعدلة لا تعرف واشنطن كيف تساند هذه الرئاسة وتدعمها، بل إنها تمضي في تهميشها طالما أن هذه هي إرادة الإسرائيليين. وفي مثل هذه الحال يستحيل البحث عن حلول، وكأن الهدف دفع الحرب الأهلية الدائرة إلى مستويات أكثر دموية ومأساوية. ينبغي ألا نخطئ، فهذه ليست الحروب الأهلية الوحيدة، فحيث لا تسفك الدماء يومياً هناك حروب أهلية سياسية لا تقل انعكاساتها عما تشهده الساحات المشتعلة قتالاً وتقتيلاً. وقد حصل ذلك بفعل سياسة قديمة- جديدة قوامها استغلال التناقضات وترهيب الحكومات والأنظمة. لذلك لم يكن متاحاً إخضاع الدول والشعوب وادعاء مساعدتها على إقامة ديمقراطيتها أو إصلاح شأنها، كما لم يكن ممكناً استعداء هذه الشعوب بفرض الاحتلالات عليها واكتساب قلوبها وعقولها في الآن نفسه. لعل الفشل الأكبر للولايات المتحدة كان في سعيها إلى تفتيت النظام العربي، بل نجاحها في ذلك، من دون أن تتمكن هي نفسها من إدارة هذا النظام في اتجاه حلول لمشاكل المنطقة. أما النجاح الأميركي في إشعال الحروب الأهلية، فإنه سيرتد على الولايات المتحدة وحلفائها، لأن لمثل هذه الحروب تداعيات يصعب التحكم بها.