مازالت أصداء مقالة "ريتشارد هاس" التي نشرها بعنوان "نهاية الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط" تتردد في دوائر شتى غربية وعربية. ويرد ذلك إلى الوضع الخاص لهذا الكاتب الأميركي المرموق، والذي تخصص في الحقبة الأخيرة في الدفاع عن سياسات الرئيس بوش مهما بلغ من جموحها، وعلى رأسها القرار بغزو العراق عسكرياً. فقد ظل "ريتشارد هاس" مؤيداً للسياسة الأميركية في العراق حتى اللحظة الأخيرة. ترى ما الذي جعل الرجل وعلى رؤوس الأشهاد يعلن نهاية الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط؟ هل هي فقط الأحداث الدامية اليومية في العراق وتساقط العشرات من الجنود الأميركيين والآلاف من المدنيين العراقيين؟ وهل هي هزيمة إسرائيل في حربها الفاشلة ضد "حزب الله"، بالرغم من كل التأييد الأميركي للحرب، بل وجهودها الدائبة لمنع مجلس الأمن من إصدار قرار بوقف القتال؟ في تقديرنا أن الهزيمة الأميركية الساحقة في العراق والمأزق التاريخي للولايات المتحدة الأميركية والذي يتمثل في العجز عن البقاء والعجز عن الانسحاب في نفس الوقت، أحد الأسباب الرئيسية في أطروحة "ريتشارد هاس" عن نهاية الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط. غير أننا نعتقد أن الأسباب أعمق كثيراً من الهزيمة الأميركية في الشرق الأوسط، ذلك أنه باستقراء التحولات في النظام العالمي، والمراقبة الدقيقة لسلوك الدول، يمكن القول إن لحظة "الأحادية القطبية" آذنت بالزوال! ونعني بذلك على وجه التحديد أن الحقبة التي بدأت بانهيار الاتحاد السوفييتي وصعود الولايات المتحدة وتصدرها مقعد "القطب الأوحد والأعظم" قد وصلت -على غير توقع عديد من المراقبين السياسيين- إلى نهاية الطريق. ولو حللنا الأسباب لأدركنا أن سياسات إيران وكوريا الشمالية في صدر العوامل التي أدت إلى هذا التطور الحاسم. وهو تطور حاسم لأن إدارة الرئيس بوش -من خلال مفكريها الاستراتيجيين- نشرت دراسات مهمة تدور حول أبدية الهيمنة الأميركية على النظام العالمي. بل وأبعد من ذلك وضع استراتيجيات لمنع أي قوة عظمى من تحدي انفراد الولايات المتحدة بحكم العالم. حتى لو كان ذلك عن طريق المواجهة العسكرية. ومعنى ذلك أن نموذج أحادية القطب الأميركي، كانت وإلى أجل قريب النظرية الرسمية المعتمدة لإدارة الرئيس بوش. وكانت تقف مناقضة لها نظرية أخرى عن أهمية تعددية الأقطاب، تتبناها وتعمل على تنفيذها بنفس طويل الصين، القوة الصاعدة في النظام الدولي. ونحن نعرف أن كلاً من إيران وكوريا الشمالية كانت مدرجة في قائمة الدول التي تمثل "محور الشر" في الإدراك الأميركي. غير أن إيران تحدت الولايات المتحدة حين أعلنت عن مشروعها النووي الذي أكدت أنه للأغراض السلمية، ورفضت بعناد كل المحاولات الأميركية والأوروبية لإثنائها عن استكمال مشروعها. غير أن الضربة الموجعة التي وجهتها كوريا الشمالية للولايات المتحدة بتفجيرها النووي، هي التي أثبتت أوهام القطب الأوحد والأعظم في مجال الانفراد بحكم العالم، لأن الولايات قررت أخيراً -بالرغم من تهديداتها اللفظية- أن المفاوضات السياسية هي المدخل الوحيد للتعامل مع كوريا الشمالية. ومما لاشك فيه أن انعكاسات أطروحة "ريتشارد هاس" على الأوضاع في الشرق الأوسط تظهر أول ما تظهر بالنسبة للمشكلة الفلسطينية من ناحية، والمشكلة اللبنانية من ناحية أخرى. أما المشكلة الفلسطينية، فهي من أعقد مشكلات القرن العشرين التي ورثها القرن الحادي والعشرون، وقد شهدت هذه المشكلة تطورات مهمة عبر تاريخها الطويل، والذي انتهى منذ حين بنجاح "حماس" في انتخابات ديمقراطية. شكلت "حماس" الحكومة رافعة شعاراتها الأيديولوجية الشهيرة وفي مقدمتها عدم الاعتراف بدولة إسرائيل. ولكنها -في ظل ظروف غير مواتية- أهمها المقاطعة الأميركية والأوروبية والإسرائيلية لها عجزت عن الانتقال من عالم الأيديولوجيا إلى محيط السياسة. وهذا الانتقال كان خطوة ضرورية بحكم أن حكومة "حماس" أصبحت مسؤولة عن الشعب الفلسطيني، ومن ثم كان عليها أن تتفاوض مباشرة مع الدولة الإسرائيلية لحل المشكلات الحياتية للشعب أولاً، وخصوصاً فيما يتعلق بالتجميد الإسرائيلي للأموال الفلسطينية التي كانت تحول للسلطة شهرياً، وثانياً للسعي في مجال التفاوض لتحرير الضفة الغربية من الاحتلال، تمهيداً لإقامة الدولة الفلسطينية. ومن ناحية أخرى لدينا المشكلة اللبنانية التي بدأت في التفاقم بعد نهاية الحرب الإسرائيلية ضد "حزب الله". والواقع أن "حزب الله"، كان وما يزال يمثل تحدياً خطيراً لسيادة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية من ناحية، وعلى قرارات الحرب والسلام من ناحية أخرى. وهنا تأتي أطروحة "هاس" بما تضمنه من نبوءة والتي تتمثل في أنه بعد انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من منطقة الشرق الأوسط وكف أيدي الدول الأجنبية عن التأثير في السياسة، فإن الشرق الأوسط سيترك لمصيره، والذي يتمثل في سيطرة العناصر "الراديكالية" على الشارع السياسي من ناحية، وفي اشتعال المعارك الطائفية، وفي مقدمتها الصراع بين الشيعة والسُّنة، بالإضافة إلى معارك أخرى. والمشكلة الفلسطينية تتمثل أساساً في تشرذم الفصائل الفلسطينية وفي الصراع الدامي بين "حماس" و"فتح"، وفي التلكؤ المعيب في تشكيل حكومة وحدة وطنية بالرغم من الاتفاق على المبدأ. غير أنه -أخطر من كل ذلك- عدم انصياع فصائل المقاومة للقرارات المركزية سواء لـ"حماس" أو "فتح". بمعنى أن أي فصيل مقاوم حتى ولو كان صغيراً يستطيع -كما حدث ذلك عديداً من المرات- إفساد أي عملية سياسية. يكفي إطلاق صاروخ واحد من صواريخ "القسام" التي ليست لها فاعلية تذكر، لإعطاء الذريعة للدولة الإسرائيلية لاقتحام غزة والضفة مرة ثانية، وقتل عشرات الفلسطينيين، وهدم مئات البيوت. وفي هذا النطاق، فإن الفصائل الفلسطينية للأسف الشديد لا تطبق بالمرة حسابات "التكلفة والعائد"! ذلك أن إطلاق صاروخ واحد، قد يؤدي إلى قتل المئات من الفلسطينيين. ومن ناحية أخرى، فإن المشكلة اللبنانية تتفاقم كل يوم وخصوصاً بعد اغتيال الوزير اللبناني بيير أمين الجميّل، مما يخشى معه عودة الحرب الأهلية مرة أخرى بأشباحها الثقيلة وأحداثها الدامية. وتتمثل المشكلة اللبنانية في أن "حزب الله" لا يريد الخضوع للاعتبارات الديمقراطية، مع أنه ممثل في الوزارة اللبنانية وفي البرلمان. هو يريد -بأي طريقة- حتى بإنزال الجماهير إلى الشارع إسقاط الحكومة الشرعية، وتشكيل حكومة بديلة تكون له فيها الأغلبية التي تمنع نزع سلاحه وإدماجه في الحياة السياسية، باعتباره حزباً سياسياً كباقي الأحزاب، ويبطل وضعه كنتوء في خاصرة الدولة اللبنانية. بعبارة أخرى لا يمكن في الظروف العادية أن يكون "حزب الله" دولة داخل الدولة، بحيث يتحكم في قرارات الحرب والسلام، خاضعاً في ذلك لأجندة غير لبنانية. وليس هناك بالنسبة للمشكلة الفلسطينية واللبنانية إلا حل واحد، هو إعلاء كلمة الديمقراطية بما تتضمنه من حلول وسط على حساب الاحتكام إلى السلاح، والذي لن ينتج عنه إلا الدمار لكل الأطراف. هل تتحقق نبوءة "ريتشارد هاس" بسيطرة الراديكاليين والمتطرفين على الشارع السياسي، وباشتعال الحروب الأهلية مرة أخرى والنزاعات الطائفية؟ في يد الشعب العربي في كل من فلسطين ولبنان إبطال المخططات الأميركية ونزع فتيل الصراعات الداخلية، إذا آمنت كل الفصائل بأنه ليس هناك سوى الديمقراطية سبيلاً لحل الصراعات محلية كانت أم إقليمية أم عالمية.