بالنسبة للسياسة الخارجية الأميركية سيكون التغيير الكبير في تغير التوجه الأميركي الذي انتهجه "المحافظون الجدد"، والذين اختطفوا السياسة الخارجية الأميركية وأمسكوا بزمامها خلال السنوات الست الماضية، وسيكون التحدي لأميركا في عدة جبهات. وما المبادرة الأوروبية للشرق الأوسط، واغتيال بيار الجميل في لبنان، وتصعيد الحرب الأهلية والمذابح المذهبية في العراق، إلا رأس جبل جليد التحدي أمام أميركا وخصومها وحلفائها معاً الذين يرون أنها فقدت تأثيرها وهيبتها وزخمها. كان من المفترض حسب تصور "المحافظين الجدد" أن يكون العراق هو القدوة والمثال الذي من خلاله سيتم صوغ المنطقة بما يخدم المصالح الأميركية ويحولها إلى منطقة طيِّعة تقضي على الإرهابيين وتنشر الديمقراطية وتهمِّش الدول المارقة وتشكل الرافعة لمرحلة هيمنة بلا منازع في المنطقة لأجيال قادمة. إنه تنظير غارق في المثالية والسطحية للمنطقة، لا يدعمه الواقع، ولا يأخذ بعين الاعتبار الكثير من المتغيرات والوقائع. لا بل ينتهي "الواقعيون" من المنظرين الاستراتيجيين الأميركيين من أمثال ريتشارد هاس "الجمهوري" مستشار الرئيس بوش الأب وزبغنيو بريجنسكي "الديمقراطي" مستشار الأمن القومي الأميركي في عهد الرئيس كارتر، إلى استنتاجات مهمة وملفتة في هذا الصدد. تؤكد تلك الاستنتاجات أنه في مقابل حرب تحرير الكويت التي كانت حرباً ضرورية والتي شكلت الرافعة للهيمنة والاستفراد الأميركي في المنطقة، كانت حرب تحرير أو احتلال العراق حرباً غير ضرورية كما يقول "ريتشارد هاس" الذي يؤكد أن المستنقع العراقي سينهي الهيمنة الأميركية. ومن جانبه يقدم بريجنسكي مقاربة مهمة كذلك يشبِّه فيها وضع أميركا اليوم في العراق، بوضع بريطانيا وفرنسا القوتين الاستعماريتين في المنطقة أيام العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وكيف أن ذلك العدوان شكل بداية النهاية للهيمنة والحضور الأنجلو- فرنسي في المنطقة. وفي المقابل فإن حرب العراق كما يتفق "هاس" و"بريجنسكي" ستشكل بداية أفول وتراجع الهيمنة الأميركية في المنطقة. ولئن بدا هذا الطرح مبالغاً فيه للمتابعين فإن البعد الاستراتيجي للأمور يجعله أقرب للواقع، وخاصة بعد انتصار "الديمقراطيين" وإزاحة رامسفيد وتساقط "المحافظين الجدد"، ومن ثم أفول نجمهم ومحاصرة العرَّاب "تشيني". وتشكل عودة فريق سياسة بوش الأب الخارجية والأمنية انتصاراً كبيراً لجناح الاعتدال والواقعية، ذلك الفريق الذي تم تجاهله بقسوة خلال السنوات الماضية من قبل الجناح المتشدد الذي اصطدم مع توجهاته على الدوام. ومما يستحق الذكر هنا أن عودة بيكر وغيتس وسكوكروفت تشكل تغليباً للتيار الواقعي والبراجماتي الذي بدأ يكتسب زخماً وقوة مع تشكيل فريق "دراسة العراق" برئاسة جيمس بيكر و"لي هاميلتون"، ذلك الفريق الذي يسعى لإنقاذ إدارة الرئيس بوش من الورطة العراقية عبر التوصية بتغيير الاستراتيجية من خلال سلسلة من الاقتراحات بما فيها الانسحاب المتدرِّج. وهذه التوصية تصطدم بإصرار الرئيس بوش ومستشاريه الذين يمارسون عناداً غير عقلاني بمزاعمهم حول "البقاء حتى النصر" دون تحديد أفق لذلك. وبحدوث تغير كبير في الاستراتيجية الأميركية ستكون هناك مطالبة من فريق "دراسة العراق" ببدء حوار وانفتاح على كل من سوريا وإيران، "محور الشر" الجديد ورمز التطرف، حيث تتهمهما الإدارة الأميركية بـ"دور تخريبي" في العراق، وبالسعي لإسقاط حكومة السنيورة في لبنان. ومع الاعتراف بأن الرئيس بوش لم يفقد جميع أوراقه بعد، فهو ما زال القائد الأعلى للقوات المسلحة وصانع السياسة الخارجية، ودور الكونجرس في المحصلة النهائية يتمحور حول الشأن الداخلي، فإن "الديمقراطيين" لن يغامروا بفقدان شعبيتهم عبر التهديد بورقة تجميد المخصصات المالية لتمويل حربي العراق وأفغانستان. إن إحدى إفرازات الانتخابات الآن هي شعور خصوم أميركا بالمزيد من الثقة والجرأة في تحدي الإدارة الأميركية، بعد سقوط "الجمهوريين" وإقصاء رامسفيلد والاستعداد لمواجهة مبكرة قد تمتحن جدية وعود التعاون والانفتاح التي استقبل بها الرئيس بوش قيادات "الديمقراطيين". ومع اقتراب الذكرى الرابعة للحرب في العراق، فإن جردة الحساب عموماً لن تكون في مصلحة الإدارة الأميركية المرتبكة والمثقلة، والتي قد تغير المسار في منتصف الطريق بسبب تراكم الحسابات الخاطئة والمكلفة يوماً بعد يوم.