يقول رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، إنه يريد من الولايات المتحدة، أن تنسحب وتترك مسؤولية حفظ الأمن للقوات العراقية. وعلى حد قول المالكي، فإنه سيكون ممكناً وقف نزيف الدم خلال ستة أشهر فحسب. وعلى الولايات المتحدة إيلاء كل اهتمامها لهذا المقترح العراقي. يلاحظ هنا أن منتقدي سياسات إدارة بوش الحالية إزاء العراق، لاسيما في أوساط أعضاء الكونجرس من معارضيه "الديمقراطيين"، كثيراً ما أبدوا ميلاً للتعويل على الجهود الدبلوماسية الدولية، من أجل حل المأزق العراقي. غير أن التجربة العملية والتاريخية تشير إلى أن العراقيين وحدهم، هم القادرون على وضع حد لدوامة الفوضى والعنف الدائرة في بلادهم. وكان قد سبق للولايات المتحدة الأميركية، أن واجهت أزمة شبيهة بهذه قبل نصف قرن. ففي عام 1955 لجأت حكومة "نيجو دين دايم"، الموالية للولايات المتحدة الأميركية، إلى طلب عون هذه الأخيرة في تفكيك المليشيات المسلحة المنتمية للطوائف الدينية هناك، وهي مليشيات كثيرة الشبه بالمليشيات العراقية اليوم. وفي الوقت ذاته، كان فصيل طامع لخدمة مصالحه الخاصة في فيتنام الجنوبية، قد أحكم سيطرته على أجهزة وقوات الشرطة، مثلما تحكم الفصائل الشيعية قبضتها على قوات الشرطة العراقية اليوم. وما أن وقفت الفصائل الفيتنامية الجنوبية في وجه السلطة المركزية لحكومة سايجون في ربيع عام 1955، حتى نصح السفير الأميركي الخاص في فيتنام وقتئذ، الجنرال "جي. لاوتون كولينز"، الرئيس "دايم"، بضرورة التصالح وتسوية النزاعات سلمياً معها. وكان من رأي كولينز أن محاولة كسر شوكة الفصائل المتمردة بالقوة، ستسفر عن استقطاب الشعب الفيتنامي، وتؤدي لانفراط زمام الجيش، مما سيشعل نيران الحرب الأهلية في البلاد. ولكن الذي حدث هو أن الرئيس رفض العمل بنصيحة السفير كولينز، وقد كان محقاً في رفضه ذاك لأسباب مفهومة. ففي فيتنام الجنوبية، شأنها في ذلك شأن أي نظام شمولي، ما أن تخفق السلطة المركزية في بسط هيمنتها واحتكارها للقوة، حتى تفقد هيبتها في نظر مؤيديها وأعدائها على حد سواء. وفي شهر فبراير من عام 1955، اندلع القتال بين قوات الجيش وواحد فصائل المليشيات المتمردة. وكما نعلم، فقد سارت الأمور وتطورت مظاهر سحق "دايم" الوحشي للتمرد، حتى حلول أغسطس من عام 1963، وهو التاريخ الذي توج فيه "دايم" بطلاً حربياً وطنياً، إثر سحقه لطائفة دينية أخرى هددت سلطته. غير أن بعض المسؤولين والصحفيين الأميركيين، أخطأوا تفسير حزمه وبأسه، واصفين إياهما بالوحشية الهدامة التي لا تثمر سوى الخراب. بل لقد أوعز بعض المسؤولين لجنرالات فيتنام الجنوبية بتدبير انقلاب عسكري عليه. وقد حدث الانقلاب بالفعل، وجرى خلاله اغتيال الرئيس "دايم". ولكن الذي تلا الانقلاب، هو انفلات العنف واستقواء شوكة المليشيات والفصائل المسلحة، في جنوبي فيتنام. ولذلك فإن هذه التجربة الفيتنامية إنما تشير إلى هدفين يجب على الولايات المتحدة الأميركية اليوم حث نوري المالكي على تحقيقهما: أولهما إخضاع المليشيات الشيعية وكسر شوكتها، وثانيهما نقل سلطات الشرطة من يد العناصر الحزبية الموالية للشيعة، إلى يد العناصر الوطنية العراقية. وفي العراق كما كان في فيتنام، فإن القيادة الأكثر كفاءة ودراية بالتصدي لهذا النوع من التمرد الطائفي، هي القيادة الوطنية المحلية، العارفة بسياسات البلد وأهله، وليس الغرباء الأميركيون الذين يفتقرون إلى الإلمام الدقيق بواقع البلد وسياساته وأهله. وبما أن المالكي قد أعرب سلفاً عن خلافه مع الرؤية الأميركية لكيفية التصدي للعنف ولتمرد المليشيات الطائفية، فإن تجربتنا السابقة في فيتنام، تعلمنا أن من الواجب الترحيب بمبادرته، تماماً مثلما رحب الرئيس الأميركي الأسبق إيزنهاور من قبل، بمبادرة "دايم" في صراع لا يكون البقاء فيه إلا للأقوى، وفقاً لقوانين النظرية الداروينية. غير أن سماحنا للمالكي بالمضي قدماً في مبادرته هذه، يجب أن يشترط بتجنبه سحق المليشيات، عن طريق ممارسة العنف المنفلت ضد المسلمين السُّنة، وهو ما يخشاه البعض الآن. أستاذ مشارك بجامعة سلاح المارينز الأميركية ــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"