برزت على الساحة السياسية الإسرائيلية مؤخراً، شخصيتان تحملان اسماً واحداً هو "عيلون". ولست أدري ما إذا كانا أخوين أم أبني عمومة، أم أن صلة قرابة عائلية بعيدة تجمع بينهما. ومهما يكن فإن الذي أعلمه عنهما جيداً، هو شدة التباين في رؤاهما السياسية للأمور. فأحدهما متشدد، بينما يتسم الأخر بالسلمية والاعتدال. وفي هذا ما يدل على أن الرأي العام الإسرائيلي هو أبعد من أن يكون متسقاً متحداً، كما يعتقد البعض. بل إن في هذا الخلاف ما يحمل على التفاؤل بإمكانية التوصل إلى تفاهم عربي-إسرائيلي في يوم ما. ولنبدأ بالجنرال "عامي عيلون" -وهو شخصية قصيرة القامة واسعة الرؤى والنظرات- وكان قد تولى قيادة القوات البحرية الإسرائيلية خلال السنوات 1992-1996، كما أوكلت إليه مهمة رئاسة جهاز الـ"شين بيت" الاستخباراتي الإسرائيلي خلال المدة من 1996 إلى 2000، أي بعد أشهر معدودة من اغتيال رئيس الوزراء الأسبق إسحاق رابين، على يد متطرف يهودي. ثم حدث شيء غريب لـ"عليون"، ربما كان مرده إلى طول السنوات التي أمضاها من حياته في اعتقال الفلسطينيين وسحقهم وقهرهم. فقد تحول فجأة من تلك الشخصية القمعية الباطشة، إلى واحد من أبرز الدعاة "الليبراليين" لفكرة التسوية السلمية مع الفلسطينيين. هذا ويتطلع "عامي عيلون" إلى انتزاع قيادة حزب "العمل" من زعيمه الحالي "عمير بريتس"، وزير دفاع حكومة إيهود أولمرت الحالية، الذي ثارت ثائرة الانتقادات الحادة لأدائه الكارثي في الحرب الإسرائيلية- اللبنانية الأخيرة، عبر الانتخابات الأولية المرتقبة لحزب "العمل" في شهر فبراير من العام المقبل. وبمعنى آخر، يحاول "عيلون" جاهداً، إنقاذ حزب "العمل" من براثن الجناح "اليميني"، وإعادته إلى مواقعه المعتدلة السابقة في "يسار الوسط" الإسرائيلي، وهي المواقع التي يصبح ممكناً منها إدارة مفاوضات سلمية مع الفلسطينيين. أما نظيره الآخر، "داني عيلون"، فهو شخصية مختلفة تمام الاختلاف عنه. فقد أكمل "داني" للتو فترة ابتعاث دبلوماسي للولايات المتحدة الأميركية، بصفته سفيراً لإسرائيل في واشنطن، مع العلم بأن هذه المهمة، تعد في نظر تل أبيب، المهمة الدبلوماسية الأهم على الإطلاق. ذلك أن التحالف الثابت بين واشنطن وتل أبيب، إنما يمثل شريان الحياة الذي لا غنى عنه للدولة العبرية. كيف ولا وكل تلك المساعدات المالية الهائلة التي تضخها واشنطن إلى تل أبيب، وكل تلك الحماية السياسية التي لم تخب يوماً هدفها في دعم إسرائيل وتأمين بقائها، علاوة على الترسانات التي تضم أفضل ما توصلت إليه تكنولوجيا الأسلحة الأميركية المصدرة لإسرائيل؟ ولولا مساعدات هذا "الأخ الأكبر" لطالت الشكوك والمصاعب، بقاء الدولة العبرية نفسها. لذا فإن من أوجب واجبات "داني عيلون" في بعثته الدبلوماسية هذه في واشنطن، ضمان بقاء التحالف بينها وبين تل أبيب، راسخاً وصلباً كما الصخر. ولما كان رئيس الوزراء الأسبق إرييل شارون هو من عينه في ذلك المنصب، فإن مهمته لا تقتصر على كسب تأييد الكونجرس وأجهزة الاستخبارات الأميركية وكذلك المؤسسة العسكرية، فضلاً عن كسبه تأييد العشرات من الجماعات اليهودية النافذة لبلاده فحسب، وإنما فوق ذلك كله، إقامة العلاقات الشخصية المباشرة مع كل من الرئيس جورج بوش، ونائبه ديك تشيني ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس، وكل من له شأن ووزن في واشنطن. ويا لها من مهمة كبيرة شاقة، وقد أحسن "يعلون" صنعاً في القيام بها على أتم وجه، كما ترى تل أبيب! ففي لقاء صحفي أجرته معه صحيفة "معاريف" الإسرائيلية اليومية في التاسع عشر من شهر نوفمبر الجاري، كشف "داني عيلون" عن شخصيته، باعتباره بطلاً مغواراً لا يشق له غبار، في انحيازه لفكرة التحالف الإسرائيلي الثابت مع الولايات المتحدة الأميركية، وناقداً لا يكسر له سهم للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، التي ابتاعت الصين بعض أسلحتها المتطورة الحساسة وراء ظهر واشنطن ودون علمها. فمن رأيه أن من أوجب واجبات هذه المؤسسة، أن تراعي الشفافية المطلقة في تعاملها مع الحليف الاستراتيجي الأميركي. وفي اللقاء نفسه، ورد على لسان "داني عيلون" ما قد يثير دهشة البعض، بوصفه للرئيس بوش بأنه رجل صاحب رؤية واسعة للعالم من حوله. وبدا "داني" على ثقة لا تهتز بأن بوش لن يسمح مطلقاً لإيران بحيازة أسلحة نووية. وفي تصوراته أن بوش سيعمد إلى محاولة إقناع طهران سياسياً بالعدول عن مسارها النووي، ثم يمضي إلى فرض العقوبات عليها، فيما لو سدرت في تماديها وغيها. ومن بعد فهناك في جعبته فرض الحظر البحري عليها، قبل أن يضطر إلى توجيه ضربات جوية لمنشآتها النووية في نهاية المطاف. وفي هذا قال "عيلون"، إن رؤية بوش لهذه المسألة تتلخص في اعتقاده بأن متشددي طهران وغلاتها الدينيين، سيشكلون خطراً جدياً للنظام العالمي بأسره، فيما لو حصلوا على قنبلتهم النووية. ولذلك فهيهات لهم المسعى وبئس التطلع. وعلى نقيض ذلك تماماً، تقف آراء "عامي عيلون". ففي خطوة مشتركة له مع ساري نسيبة، أحد أبرز المفكرين الفلسطينيين ورئيس جامعة القدس، أطلقا معاً، مبادرة تفاوض سلمي بين طرفي النزاع، تهدف لإقامة دولتين مستقلتين متجاورتين، على أساس حدود عام 1967، وعلى أن تكون القدس عاصمة مشتركة لكلتيهما. كما تضمنت المبادرة التي أطلقت منذ عدة سنوات، كفالة حق العودة للاجئين الفلسطينيين، في مقابل إعادة المستوطنين اليهود داخل الأراضي الفلسطينية، إلى حدود دولتهم إسرائيل. وربما يكون تواتر الأحداث التي طرأت مؤخراً، وفي مقدمتها الحرب الإسرائيلية- اللبنانية، قد عجل بأهمية الأخذ برؤى "عيلون" هذه. فهو يستبعد من حساباته "الأحادية" الإسرائيلية، باعتبارها وسيلة غير فاعلة، بينما لا يرى في القوة العسكرية وحدها، ما يهزم الإرهاب والأصولية. ولكل ذلك فهو يدعو إسرائيل لأن تضع نصب عينيها خطة السلام العربية التي أقرت في مارس من عام 2002. ومن رأيه أن على المجتمع الدولي أن يهيئ الظروف والأجواء لعودة الطرفين إلى طاولات المفاوضات، إلى جانب توفير الضمانات الأمنية لكلا جانبي النزاع. يذكر أن "عيلون" قد عبر عن آرائه هذه، في لقاء أجراه معه مراسل صحفي فرنسي، نشر مؤخراً بدورية "السياسات الدولية". وفي هذا اللقاء حذر "عيلون" من أنه إذا فشلت إسرائيل في التعامل مع الفلسطينيين بقيادتهم الحالية، فإنها ستواجه بخطر تنظيم "القاعدة". ولذلك فقد حان لتل أبيب أن تمسك زمام أمرها ومصيرها بنفسها. ومن رأيي أنه إذا أرادت إسرائيل العيش بسلام مع جيرانها العرب، فإن عليها أن تأخذ بآراء "عامي عيلون"، بدلاً من أن ترهن مستقبلها الأمني ورفاهيتها لقبضة واشنطن.