جاء اغتيال الوزير بيار الجميل ليصب زيتاً جديداً على نار الأزمة المضطرمة أصلاً، وليزيد المشهد اللبناني تعقيداً على تعقيده الأصلي. وعادت الخيوط لتتشابك من جديد، والمسارات لتفترق مجدداً، ليس بين أطراف الأزمة اللبنانية الداخلية فقط، بل أيضاً بين بعض أطراف هذه الأزمة واللاعبين الإقليميين ذوي الصلة، بأسمائهم وعلى عناوينهم المعروفة سلفاً، وعلى عناوين حلفائهم داخل بلاد الأرز كذلك. ومع أن المطلب الظاهر لـ"حزب الله" ومُحازبيه في قوى "8 آذار"، كان حتى قبل أيام، تسليك التيار العوني ضمن الحكومة، وتسريع إجراء تعديلات جوهرية على بنيتها بحيث تنال "المعارضة" حصة من الحقائب يمكن ترجمتها سياسياً إلى "ثلث مُعطِّل" لأي قرار لا يُراد تمريره في "السراي الحكومي"، فإن اللغة المهادنة، والراغبة في التقاط الأنفاس، التي أبدتها حكومة السنيورة، ربما دفعت هي أيضاً إلى تصليب المواقف ورفع سقف "التنازلات المتوقعة" على الطرف الآخر من الطاولة. وفي هذه الأثناء ظلت جولات "الحوار الوطني" مساراً سياسياً غير مُجدٍ، وفي اتجاه واحد، كما ظلت الفجوة بين المواقف المتشنِّجة على حالها، بانتظار أن تحقق مساعي رئيس مجلس النواب نبيه برِّي اختراقاً في أحد الاتجاهين، وهو اختراق طال انتظاره، وأصبحت فرص تحقيقه الآن أقل بكثير، خاصة بعد أن أخذ برِّي نفسه موقفاً وموقعاً ضمن الاصطفاف القائم، بانسحاب الوزراء الشيعة من الحكومة، بما فيهم وزراء حركته "أمل"، وبتكراره هو الآن بشكل مستمر نزع صفتي "الشرعية" و"الدستورية" صراحةً عن حكومة السنيورة. وفي حين تبدو حكومة السنيورة الآن في موقف صعب ظاهرياً، بفعل حاجتها "الدستورية" الماسَّة إلى مصادقة الرئيس إميل لحود –المتمنِّع- على إقرار مشروع المحكمة الدولية، ومصادقة مجلس النواب أيضاً -الذي يرأسه برِّي- فإن الدفعة القوية التي أعطاها قرار مجلس الأمن الدولي لموقف الحكومة يمكن أن تترجم أيضاً إلى مكسب سياسي داخلي بات الآن في حكم الأمر الواقع، والمطلب المُلح، الذي عززته –للمفارقة- مأساة اغتيال بيار الجميّل، مع ما ترتب عليها من ضرورة تأجيل لحل "النزول إلى الشارع"، الذي طالما لوَّحت به قوى "8 آذار". ولعل تأكيد نبيه بري وحسن نصر الله، صباح يوم السبت، التزامهما بقيام المحكمة، واستعدادهما لمناقشة مسودة إنشائها، من حيث المبدأ، يكون بداية حلحلة في موقف قوى المعارضة، خاصة في ضوء الجلسة الحكومية التي عقدت في نفس اليوم، والتي صادقت فيها حكومة السنيورة على النظام الداخلي الأساسي للمحكمة ذات الطابع الدولي. ولا يستبعد أن يكون للضغوط الإقليمية والخارجية دخل في هذا التحول السياسي عميق الدلالة، والقابل للتطوير، بكل تأكيد. ومجمل القول إن دقة اللحظة التي يمر بها لبنان اليوم، والخطر الداهم المُحدق به من كل جانب، يقتضي من اللبنانيين إنتاج قراءة سياسية شديدة الواقعية للمواقف والمواقع والاصطفافات، والتعامل مع افتراق مواقفهم اليوم، بذاكرة تتعالى على كل تراكمات الماضي، وتتجاوز "مراراته". كما يقتضي من الزعماء اللبنانيين تحديداً أن يجدوا طريقة أخرى لتوصيل "الرسائل" و"المواقف" غير شاشات الفضائيات ومكبِّرات الصوت والخطب الصاخبة والمهرجانات "المليونية"، والمليونية المُضادة أيضاً. لأنه لا بديل آخر عن المصالحة والحكمة والعقلانية، سوى المزيد من التمادي في السير على طريق سياسة حافة الهاوية. وغني عن القول إن تجارب لبنان القريبة مع مثل تلك السياسة أمرُّ وأهول بكثير من أن ينوَّه إليها. وعلى "حزب الله" هنا تحديداً أن يتجاوز في مواقفه أي ارتهان، لأي طرف خارجي، وبحيث لا تلتقط قوى "14 آذار" إشاراته إلى "حل الشارع" وضغوطه لتعظيم حصة حلفائه في الحكومة على أنهما تلويح مكشوف بـ"فائض القوة" المُعطَّل بين يديه، بعد أن أصبحت جيوش "اليونيفيل" تحول دون تنفيس ذلك "الفائض" في مصارف أخرى.