هل نستطيع تناول وجبة العشاء مع "الشيطان" حتى لو استخدمنا مِلعقة طويلة تجنبنا الجلوس معه، جنباً إلى جنب؟ إنه السؤال ذاته الذي لاشك يتردد على مسامع الرئيس بوش هذه الأيام. فقد سبق للرئيس الأميركي أن انتقد بشدة ثلاث دول في شهر يناير من عام 2002 بعد وصفها بـ"محور الشر"، وتمثلت آنذاك، وفق توصيفه، في العراق وإيران وكوريا الشمالية. ومنذ ذلك الحين والولايات المتحدة تسعى إلى إخراج تلك الدول من المحور سيئ الذكر، والتعامل معها كلاً على حدة. وهكذا تمت الإطاحة بنظام صدام حسين وأصبح العراق في قبضة الأميركيين بعدما تمكنوا من احتلاله وإزاحة نظامه السابق، هذا مع ما ترتب على ذلك من أوضاع أمنية منفلتة وفوضى مازالت مستمرة بعد ثلاث سنوات على سقوط بغداد، وتورط للقوات الأميركية في مستنقع يصعب الخروج منه بسهولة. ومن جانبه كان الرأي العام الأميركي واضحاً من خلال الانتخابات النصفية التي أكدت رغبة الأميركيين في سحب قواتهم من العراق، بعدما تراجع الأمل في تحقيق أي نصر ممكن، وانحصرت التطلعات في تطويق الكارثة وإبقائها في حدودها الدنيا. أما إيران التي استشعرت تصاعد نفوذها الإقليمي منذ اندلاع الحرب في العراق فقد قررت تسليم السلطة للرئيس محمود أحمدي نجاد المتشدد، الذي لم يخفِ رغبته في محو إسرائيل من على الخريطة. وقد استمرت إيران بالتوازي مع ذلك في تطوير قدراتها النووية التي تخيف المجتمع الدولي وتثير شكوكه من أن يكون هدفها النهائي هو إنتاج القنبلة النووية، مستغلة ورقة الكراهية التي تكنها شعوب المنطقة للولايات المتحدة وإسرائيل لتوسيع نفوذها في العالم الإسلامي وحشد التأييد لمواقفها حتى خارج حدود المعقل التقليدي للإسلام الشيعي. وفي ظل هذا الوضع المُعقد الذي فرضه صعود إيران وتراجع الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط يجد الرئيس بوش نفسه أمام معضلة حقيقية. فهو حائر بين مواقف القادة الإسرائيليين الداعية إلى اتخاذ تدابير حازمة ضد طهران، وبين توني بلير الذي ينصح بالدخول في حوار ثنائي معها بهدف تأمين انسحاب سلس للقوات الأميركية والبريطانية من العراق. فلم يعد خافياً على أحد قدرة إيران على خلق العديد من المتاعب لأميركا في المنطقة بعدما باتت، باعتراف واشنطن نفسها، الفاعل الرئيسي فيها. لكن إذا كان الانشغال الأميركي الأول هو تأمين انسحاب سلس للقوات الأميركية من العراق، فهل يلجأ الرئيس بوش إلى منهج براجماتي يستلهم قواعده من حقائق الميدان، أم أنه سيقفز على هزيمته الاستراتيجية في العراق، والسياسية في الانتخابات التشريعية، ليتمسك بخيارته السابقة القائمة على انتهاج الصرامة والحزم في التعامل مع طهران؟ فالمقاربة المعتمدة على اعتبارات طوباوية، والقائمة في جزء منها على الأيديولوجيا التي يستند إليها الرئيس بوش في إدارة العلاقات الدولية تمنعه من التحاور مع إيران، أو الجلوس معها على طاولة المفاوضات. واللافت هنا أن وسائل الإعلام الأميركية تعكف هذه الأيام على تصوير الرئيس الإيراني أحمدي نجاد على أنه "هتلر جديد"، وهو ما يؤشر على احتمالات الحرب، بالنظر إلى تجارب سابقة كثيرة منها الحملة على صدام حسين قبل الإطاحة به، وعلى ميلوسوفيتش خلال التسعينيات، عشية حرب كوسوفو. يذكر أن إسرائيل لن تستطيع شن هجوم جوي على المنشآت النووية الإيرانية ما لم تزودها الطائرات الأميركية بالوقود في الجو، أو تحط في العراق. كما أن الرئيس بوش لا يريد الوقوف حائلاً دون تنفيذ إسرائيل لعملياتها العسكرية، لاسيما وأنه يؤمن بحقها في توجيه ضربة استباقية إلى طهران. وهو لا يريد أيضاً أن يغادر البيت الأبيض تاركاً وراءه إيران وفي حوزتها السلاح النووي. غير أنه لاشك يعرف أن تركة الحرب في حال وقوعها ضد طهران ستكون كارثية بما لا يمكن تصوره في منطقة هشة مثل الشرق الأوسط، وهو ما يؤكده لبوش القادة الأوروبيون والعرب، فضلاً عن الأجهزة الاستخباراتية التي لا تفتر من تحذير الرئيس الأميركي من مغبة الدخول في مغامرة عسكرية قد تأتي عواقبها وخيمة على المصالح الأميركية في المنطقة. لكن هل يمكن مطالبة إيران بالتعاون مع الولايات المتحدة بشأن الملف العراقي، والمساعدة في إحلال الاستقرار الأمني ووقف النزيف الدموي اليومي هناك وفي الوقت نفسه مطالبتها بالتخلي عن برنامجها النووي، والأكثر من ذلك التلويح بقلب النظام فيها؟ الأقرب إلى التصور هنا هو أن إيران لن تقبل تقديم "تنازلات" بشأن ملفي العراق والبرنامج النووي معاً دون الحصول على مقابل كبير، سواء على الصعيد الاقتصادي والتجاري، أم على الصعيد السياسي. ويبدو أن إيران تصر على أن تكون أية مفاوضات شاملة تلامس كافة القضايا المطروحة لتكلل بحصول النظام على ضمانات أمنية بدونها لن تقدم طهران أية تنازلات ذات قيمة للطرف الأميركي. ويبقى السؤال الجوهري الذي يشغل بال الفاعلين في الشرق الأوسط هو عما إذا كانت المنطقة مقبلة حقاً على حرب جديدة بعد كل الدمار الذي أوقعته حربا العراق ولبنان، بينما يستمر الوضع في فلسطين في التدهور يوماً بعد آخر دون أن يقوم البيت الأبيض بأية خطوة في اتجاه الضغط على الحكومة الإسرائيلية لإطلاق عملية سلام حقيقية. واللافت أن الولايات المتحدة ما زالت تصر على دعمها اللامشروط لإسرائيل حتى في ظل إدراكها بأن حلاً عادلاً للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني سيساهم في تعزيز العلاقات مع الدول العربية المعْتدلة في المنطقة، بل حتى مع الدول الأوروبية التي سعت طويلاً لحل الصراع. وفي الختام فإن ما تشهده المنطقة من أحداث وتطورات سواء فيما يتعلق بالورطة الأميركية في العراق بين مطالبة "الجمهوريين" برفع عدد القوات الأميركية لتأمين النصر، وتشديد "الديمقراطيين" على الانسحاب بعد إيجاد الحلول المناسبة، فضلاً عن استمرار الجمود في الملف الفلسطيني وإصرار بوش على أن الأمور ستحل في النهاية، ثم تصاعد نذر المواجهة مع إيران كلها مؤشرات تشي بأن منطقة الشرق الأوسط ستبقى وقتاً طويلاً آخر على صفيح ساخن، وبأنها ستبقى مرشحة للانفجار في أية لحظة.