زيارة الرئيس جورج دبليو بوش إلى هانوي في الأسبوع الماضي، وهي الثانية لرئيس أميركي إلى هذا البلد منذ انتهاء الحرب الأميركية– الفيتنامية قبل نحو ثلاثة عقود، لم تصاحبها أية مشاكل أو منغِّصات كي لا نقول إنها تمت في أجواء حميمية. على العكس من ذلك، قوبلت زيارة بوش إلى جاكرتا هذا الأسبوع بتظاهرات ضخمة شارك فيها الآلاف من الإندونيسيين، الذين لم يكتفوا بالتنديد بالضيف وبلاده بل هددوا بقتله بعملية انتحارية، و لجأ بعضهم إلى أعمال السحر والشعوذة من أجل إفساد رحلته. هذا علماً بأن الفيتناميين، وليس الإندونيسيين، هم من صبت الآلة الحربية الأميركية فوق رؤوسهم آلاف الأطنان من القنابل الحارقة وقتلت مئات الآلاف من شبابهم ونسائهم وأطفالهم في حرب دامت لأكثر من عقد. المشهدان المتناقضان السابقان إن عكسا شيئاً فإنهما يعكسان اختلاف ثقافتين. الأولى قادرة على تجاوز الماضي بكل آلامه ومآسيه وأحماله الثقيلة، والنظر إلى المستقبل بواقعية ومسؤولية وإرادة حديدية. أما الثانية، فعاجزة عن المبادرات الخلاقة بفعل استسلامها للأوهام والهواجس، فتلجأ إلى الضجيج والتهديد والسحر، وتركن إلى الشعارات الفارغة التي ما صنعت إلا المزيد من التخلف والانهيارات. والأخيرة على أية حال ليست ثقافة إندونيسية أصيلة بقدر ما هي دخيلة تسربت من مجتمعات الشرق الأوسط المحتقِنة، ووجدت من يحتضنها وينشرها طبقاً لتصريحات آخر ثلاثة رؤساء إندونيسيين في مناسبات مختلفة. ولأن الثقافة السائدة في المجتمع الفيتنامي هي ثقافة العمل والتعاون من أجل المستقبل وليس ثقافة المقاطعة واجترار الماضي والتجمد عند محطة تاريخية معينة، فإنه حتى حكام البلاد، من الشيوعيين الذين لسنا في حاجة للتذكير بما بينهم وبين الولايات المتحدة والغرب من ثارات، تشربوا مفردات هذه الثقافة، وبالتالي لم يجدوا غضاضة في نسيان الماضي الكئيب والتعاون الشامل مع رأس النظام الرأسمالي، وهو ما لا يمكن توقعه من شيوعيي العالم العربي الذين هم في النهاية نتاج بيئة وثقافة مختلفة مأسورة بالماضي ومأزومة بنظريات المؤامرة. وهنا لابد من فتح هلالين كبيرين للقول إنه ما من أمة واجهت التنكيل والاستعمار على يد الأجنبي مثل الأمة الفيتنامية، التي تعرضت لألفي عام من الهيمنة الصينية، و16 عاماً من الغزوات المغولية، ونحو مئة عام من الهيمنة الاستعمارية الفرنسية فاليابانية، و30 عاماً من حروب الاستقلال والوحدة ضد الفرنسيين والأميركيين، فما غرس ذلك في أبنائها نوازع الانتقام والكراهية والمقاطعة إلى الأبد، ولم تصبغ ثقافتهم بالدموية. كانت تلك مقدمة ضرورية لتفسير التعاون اللافت للنظر ما بين الفيتناميين والأميركيين في السنوات الأخيرة، والحيوية التي باتت تميز علاقاتهما الثنائية الرسمية والشعبية رغم كل ما كان بينهما من عداوة. وإذا كانت زيارة الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون إلى فيتنام في نوفمبر 2000، قد رافقها بعض الجدل حول مسألة تقديم واشنطن لاعتذار رسمي عن جرائمها بحق الشعب الفيتنامي، فإنها دشنت عهداً جديداً وعززت خطوات سابقة مثل قرار رفع المقاطعة الأميركية في عام 1994 وإنشاء العلاقات الدبلوماسية في عام 1995 وتوقيع معاهدة للتبادل التجاري في يوليو 2000. بل إنها وطدت السياسات الانفتاحية للنظام الشيوعي الفيتنامي التي كان من تجلياتها تأسيس روابط دبلوماسية كاملة مع المزيد من دول العالم الحر، وبما جعلها اليوم مرتبطة دبلوماسياً مع 167 بلداً، واقتصادياً مع 150 بلداً، وممثلة في أكبر ثلاثة تكتلات إقليمية (إيبيك وآسيان وأفتا)، ومدعوة للانضمام إلى "منظمة التجارة العالمية". ومنذ دخول المعاهدة التجارية بين واشنطن وهانوي حيز التنفيذ في ديسمبر 2001 تضاعف حجم التبادل التجاري بين البلدين ثلاث مرات، ليصل في العام الماضي إلى أكثر من 6.4 مليار دولار، ولتصبح الولايات المتحدة أكبر سوق لصادرات فيتنام، بل مستوردة لخمس إجمالي الصادرات الفيتنامية. وفي موازاة هذا التطور راحت الاستثمارات الأميركية الخاصة تنكب على فيتنام، تغريها عوامل مثل تنوع الفرص الاستثمارية المجدية وانخفاض أجور الأيدي العاملة بنحو 30 في المئة عن مثيلاتها في الصين، ووجود تكتل بشري يزيد على 78 مليون نسمة 60 في المئة منهم من الشباب دون الثلاثين، وتجذر قيم الانضباط والإخلاص في العمل والجدية والمثابرة في التعليم. فكان أن تجاوز الحجم الكلي لرؤوس الأموال الأميركية المستثمرة الرقم 2.6 مليار دولار في العام الماضي، علماً بأن حجم ما استثمره الأميركيون في فيتنام عام 2005 وحده بلغ 530 مليون دولار أو 19 في المئة من إجمالي ما استقطبته فيتنام في ذلك العام من استثمارات أجنبية. وفي دراسة أعدتها غرفة التجارة الأميركية عام 2004 حول تقييم أعضائها لمناخ الأعمال في فيتنام ومدى استعدادهم للاستثمار هناك، وافق 77 في المئة منهم على أن الاقتصاد الفيتنامي يعمل بصورة حسنة وينتظره مستقبل مشرق، وتوقع 82 في المئة منهم تزايد فرص الربح أمام المستثمرين الأجانب في السنوات القادمة. ورغم ما أبداه البعض من تحفظات على ضعف البنية التحتية في فيتنام وانتشار الفساد الإداري وبطء عمل الأجهزة البيروقراطية، فإنه كان هناك إجماع على ميلاد نمر جديد، بالإمكان تغذيته وتدريبه وتوجيهه ليصبح صنواً لنمور آسيا التكنولوجية. ومن هنا لم يكن غريباً أن يسبق زيارة بوش الأخيرة إلى هانوي الإعلان عن قرار شركة "إنتيل" Intel الأميركية العملاقة، التي تعد أكبر منتج في العالم لشرائح ومعالجات الكمبيوتر، استثمار مليار دولار في فيتنام عبر إقامة مشروعين في مدينة "هوشي منه" (سايغون سابقاً)، أحدهما لتجميع شرائح الكمبيوتر، والآخر للاختبارات ذات الصلة، ويُنتظر أن توفرا معاً نحو 4000 فرصة عمل. وأهمية هذا الاستثمار الأميركي الجديد الذي وضع فيتنام بثبات على خريطة الأمم الساعية نحو اقتصاديات المعرفة و"الهاي تيك"، تكمن في إعطائه مؤشراً على الثقة المتزايدة في إمكانيات ومستقبل فيتنام، وبالتالي تشجيع مؤسسات الأعمال الأميركية والغربية والآسيوية الكبرى دون وجل أو تردد على خوض قطاع "الهاي تيك" وصناعة تكنولوجيا المعرفة الفيتنامي الناشئ الذي حقق في العام الماضي مبيعات فاقت المليار دولار. لقد كان بإمكان مؤسسة عملاقة كـ"أنتيل" أن توجه استثماراتها إلى دول أخرى، لكنها فضلت فيتنام لأن الأخيرة واعدة بكل المقاييس بفضل العوامل المشار إليها آنفاً وعلى رأسها ثقافة متجذرة قواها التسامح والانفتاح والعمل الجاد والمدروس من أجل المستقبل، لا الانشغال بالماضي وهدر الحاضر في العنتريات والشعارات والتهديدات التي ما قتلت ذبابة. ليتنا نتعلم من الفيتناميين، بدلاً من الإعجاب بنظام لا يجيد سوى صناعة أدوات الموت والدمار كالنظام الكوري الشمالي، فنكف عن النواح والصراخ حول الكرامة المنتهكة والعزة المهدورة والسيادة المطعونة، ونتخذ من التعاون والشراكة والانفتاح على العالم شرقه وغربه طريقاً نحو الكرامة والعزة والريادة.