لن يكون هناك نصر ولا هزيمة للولايات المتحدة الأميركية في العراق. والسبب أن هذه المفردات لن تكون قادرة على التعبير عما سيحدث هناك، وأن العراقيين هم الذين يقررون مصير بلادهم وليس نحن. ثم إن العراق ليس جائزة لنخسرها أو نفوز بها، لكونه جزءاً لا يتجزأ من الصراع الدولي الدائر ضد ظواهر عدم الاستقرار والوحشية والتطرف والإرهاب. ولكل هذه الأسباب، فليس ثمة نصر أو حل عسكري للمعضلة العراقية. وقد عبر عن هذه الفكرة بكل وضوح، هنري كيسنجر وزير الخارجية الأسبق، خلال حديث له في عطلة نهاية الأسبوع الماضي. فقد مضى وقت إرسال مزيد من قواتنا إلى العراق، لأنه لم تعد لنا قوات يمكن إرسالها إليه. بل وحتى في حال توفر مزيد من هذه القوات، فإنها لن تستطيع حل المأزق الذي يمر به العراق اليوم. وكما نعلم فإن مهمة الجيوش هي خوض الحروب والفوز بها عسكرياً، وليس توحيد شعوب الدول الفاشلة وحل مشكلاتها السياسية. وها نحن نتعلم درساً قاسياً جديداً من هذه التجربة كلها: فليس في مقدور أميركا فرض نموذجها الديمقراطي على أي بلد كان، بصرف النظر عن نبل أهدافها ودوافعها. ولم يحدث ما حدث في العراق، إلا لأننا أخطأنا قراءة وفهم وتخطيط وإدارة نوايانا النبيلة والحسنة لما قمنا به فيه، بسبب صلَفنا وأوهامنا المتبقية لنا من أيام حربنا ضد فيتنام. وقد أثبتت التجربة أن نبل الغايات والأهداف، لا يقف بديلاً ولا مرادفاً للخطط والسياسات. وقد آن لنا أن ندرك أن العراق إنما هو ملك سكانه البالغ عددهم نحو 25 مليون نسمة، وليس ملكنا نحن، كي نفعل به ما نشاء. ولهذا فهم المعنيون بتقرير مصيرهم وشكل الحكم الذي يريدونه لأنفسهم. وربما يستغرق بناء دولة مركزية متماسكة في العراق، بضع سنوات من الآن. وفي الوقت الحالي، لا شيء أضيق من الخيارات المتاحة لأميركا في هذا الصدد. ومن الواضح أن العراق سيكون جزءاً من مركز استقطاب سياسي جديد في منطقة الشرق الأوسط. وقد بدأت هذه العملية فعلاً خلال الأيام الأخيرة، باستئناف العراق وسوريا لعلاقتهما الدبلوماسية، إثر مضي 20 عاماً من انقطاعها، ومن انعدام أي صلة رسمية بين الدولتين. أما الشق الثاني منها، فمن المتوقع اكتماله نهاية الأسبوع الحالي، بانعقاد ذلك الاجتماع التاريخي غير المسبوق، لرؤساء كل من سوريا والعراق وإيران في العاصمة الإيرانية طهران. فما الذي يمكن استنتاجه من كل هذا؟ إن القوى الإقليمية ستعمل وحدها على ملء الفراغ الذي نشأ، دون أدنى حاجة منها للولايات المتحدة. وهذه هي الخطوة الأكثر جرأة في منطقة الشرق الأوسط، منذ عدة سنوات مضت. فهذه المنطقة، هي أكثر احتراقاً اليوم مما كانت عليه في أي وقت مضى. وإلى أن يأتي الوقت الذي نحيي فيه عملية السلام العربي- الإسرائيلي، فإنه لا شيء سوى استمرار الدمار والقتل الأعمى، في كل من لبنان وإسرائيل، بل وعلى امتداد المنطقة كلها. ولذلك فما أبعدنا عن التوصل إلى حل سلمي مستدام لفوضى العنف الضاربة في العراق اليوم. بيد أن التطورات والأحداث المتسارعة مؤخراً في المنطقة، إنما تدفعها نحو المسار الذي يتحتم عليها المضي فيه، على أمل أن يفضي إلى تقدم وسلام مستدامين. ومن المؤكد أن هذا المسار سيتعثر وسيقطع طرقاً شائكة وصعبة، وألا تخلو العملية كلها من الهنات والأخطاء والعيوب. وفي المقابل، تجد الولايات المتحدة نفسها، في عزلة دولية خطيرة في هذا العالم المتغير. فليس أخطر من أن ينظر إلينا على أننا في حرب مع مسلمي العالم قاطبة. ومن أسف أن هذه النظرة قد اكتسبت لها أرضية ومصداقية في العالمين العربي الإسلامي، ومن المرجَّح لها أن تضع عقبات كبيرة أمام مصداقية الولايات المتحدة ودورها القيادي ونواياها إزاء الأمم والشعوب، لسنوات مقبلة. وبالطبع فإنه لابد من تغيير هذا المنظور السلبي الخطير، في عالم متغير ومتطلع إلى نظام "جيوبوليتيكي" جديد، وإلى إقامة سوق اقتصادية عالمية، يتوقع لها أن تعبِّر عن المصالح الاقتصادية لمليارات البشر خلال فترة الربع قرن المقبلة. ومهما يحدث، فإنه ليس من غنى للعالم عن قيادة أميركية واقعية وصادقة وواضحة الأهداف والمرامي. وغني عن القول إن عالماً بهذه الصفة، لم يعُد بحاجة إلى مهمة أميركية إلهية بأي حال. وعليه فقد تعيَّن على أميركا أن تضع خطة واضحة لانسحابها التدريجي من العراق. ذلك أن تكلفة الحرب الخاسرة هذه، فاقت حداً لا يمكن تصوره، على صعيد الخسائر المادية والبشرية والمالية معاً. فقد أنفقنا حتى الآن ما يزيد على 300 مليار دولار، ولا نزال ننفق نحو 8 مليارات دولار شهرياً هناك. أما التكلفة المشتركة لحربنا على العراق وأفغانستان، فقد تجاوزت حوالي 500 مليار دولار، مع ملاحظة تراجع جهودنا التي بذلناها في أفغانستان، ليس لسبب آخر، سوى إدارة ظهرنا لمكمن الخطر الإرهابي الرئيسي هناك، وليس في العراق. وكما نعلم فقد وفرت "جماعة دراسات العراق"، بقيادة كل من جيمس بيكر و"لي هاملتون"، فرصة جديدة للرئيس جورج بوش، لتحقيق إجماع ثنائي حزبي على كيفية خروجنا من العراق. وإذا ما أهدر بوش هذه الفرصة، فسيكون قد أضر أيمَّا ضرر ببلاده، وبالشرق الأوسط، بل وبالعالم كله. تشاك هاجل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سيناتور "جمهوري" من ولاية نبراسكا ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"