عندما يبدأ الرجل الذي بنى مشواره السياسي على تكرار "لا" و"أبداً" في قول "ربما" و"ممكن"، فلابد أن تقدماً قد تم إحرازه. فعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود، وبينما كانت إيرلندا الشمالية غارقة في نزاع طائفي حصد أرواح أزيد من 3500 شخص، مثَّل إيان بيزلي صوت النشطاء البروتستانت الذين قالوا "لا" لعملية السلام في 1998 و"أبداً" لفكرة الجلوس مع "الشين فين" الكاثوليكي الجمهوري الإيرلندي. أما اليوم، وبعد أزيد من ثماني سنوات على اتفاق "الجمعة العظيمة" الذي وضع طائفتي الإقليم على طريق المصالحة الطويل والشاق، فيمكن القول إن ما كان ذات يوم أمراً لا يمكن تصوره بات اليوم ممكن التحقيق. ذلك أنه باستثناء تعثر أو انتكاسة قد تحدث في آخر لحظة، فمن المرتقب أن يتم تنصيب زعيمي الحزبين الأكثر شعبية يوم الجمعة في منصبي رئيس ونائب رئيس حكومة انتقالية وفق مخطط جديد يروم إعادة إحياء الحكم الذاتي في إيرلندا الشمالية. وهو ما يعني أن يعمل القس بيزلي جنباً إلى جنب مع الرجل الذي شكل على مدى ثلاثين عاماً خصماً لدوداً له، ألا وهو مارتن ماكغينيس من حزب "الشين فين". يتزعم بيزلي "الحزب الوحدوي الديمقراطي"، الذي يمثل الوحدويين البروتستانت المتشددين الذين يتشبثون بالحكم البريطاني في إيرلندا الشمالية، ويعارضون معارضة قوية "الشين فين" وجناحه العسكري "الجيش الجمهوري الإيرلندي"، الذي يرغب في إعادة التوحد مع إيرلندا. ويرى عدد من الخبراء والسياسيين أن النجاح في إقناع الرجلين بالعمل معاً في الحكومة من شأنه أن يمثل محطة كبرى، ما يعني انضمام كل الفصائل الرئيسية إلى عملية السلام. غير أن ذلك لا يعني البتة تبدد الشكوك. وفي هذا السياق يقول هنري بترسون، أستاذ العلوم السياسية بجامعة أليستر في عاصمة الإقليم بيلفاست: "الواقع أنه قد يتم بالفعل توقيع الاتفاق، وقد يتمخض ذلك عن تشكيل حكومة بالفعل، غير أن السؤال الذي يفرض نفسه هو: كم ستدوم هذه الحكومة؟"، مضيفاً "هل سنحصل على حكومة تستطيع الصمود على المدى البعيد بناء على وجهتي نظر مختلفتين تُحمِّل كل واحدة منهما الطرف الآخر مسؤولية كل سوء تصرف حدث في إيرلندا الشمالية؟". وإذا كان خبير آخر في الشؤون السياسية هو "سيدني إيليوت" من جامعة كوين في بيلفاست يرى أن إقناع "الحزب الوحدوي الديمقراطي" بالانضمام إلى العملية السياسية يعد إنجازاً كبيراً، وأن "إقناعه باقتسام السلطة مع الشين فين يمثل خطوة لا تقل أهمية"، فإنه لا يخفي تشككه في مستقبل العملية برمتها. وفي هذا الإطار يقول: "من المستبعد جداً أن نحصل على شكل شامل لاقتسام السلطة". والاتفاق الذي تم إعداده في "سانت أندروز" بسكوتلاندا الشهر المنصرم عبارة عن مخطط سياسي صيغ بعناية من قبل البريطانيين والإيرلنديين بهدف وضع حد للنزاع بالإقليم. وقد تم فرض سلسلة من الشروط والآجال بغية حمل الأطراف المعنية على الانضمام. ومن المرتقب وفق المخطط أن تُجرى انتخابات البرلمان في بيلفاست في مارس المقبل عندما يتم تنصيب حكومة دائمة تقوم على مبدأ اقتسام السلطة، وهو ما يعيد إحياء الحكم الذاتي بعد توقف دام أكثر من أربع سنوات. أما آخر محاولة لاقتسام السلطة، فقد انهارت في 2002 عندما تم كشف شبكة تجسس مشتبه فيها تابعة لـ"لجيش الجمهوري الإيرلندي" بالجمعية العامة. وكان فوز "الحزب الوحدوي الديمقراطي" في الانتخابات عام 2003 قد تسبب في تعطيل العملية السياسية. كما ظلت الشكوك حول الأسلحة التي وضعتها المجموعات شبه العسكرية، ومنها "الجيش الجمهوري الإيرلندي"، قائمة حتى بعد إعلان هذا الأخير العام الماضي تخليه نهائياً عن العمليات العسكرية. ويتركز انعدام الثقة المتبادل هذه المرة على موضوع الشرطة، إذ من المفترض أن يدعم "الشين فين" علناً، قبل أن يستطيع الانضمام إلى اتفاق اقتسام السلطة، قوة الشرطة في الإقليم، والتي تعتبر تقليدياً من معاقل البروتستانت. إلا أن "الشين فين" يقول إنه لن يُقدم على فعل ذلك قبل أن يتم وضع تاريخ لنقل الأمن والعدالة من لندن إلى بيلفاست. والحال أن "الحزب الوحدوي الديمقراطي" يرفض هذا الموقف. وفي هذا السياق، يقول جيفري دونالدسون، عضو "الحزب الوحدوي الديمقراطي" في البرلمان البريطاني "مما لاشك فيه أنه ينبغي على أي شخص مرشح لأن يصبح وزيراً في حكومة ديمقراطية أن يدعم حكم القانون"، مضيفاً "هل يمكنك أن تتخيل وجود وزير في إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش لم يؤيد الشرطة والمحاكم وحكم القانون في الولايات المتحدة؟". والواقع أن معظم سكان إيرلندا الشمالية البالغ عددهم 1.7 مليون نسمة قد ضاقوا ذرعاً بما آلت إليه الأوضاع السياسية في الإقليم، ولا يرغبون سوى في حياة عامة عادية بعد عدة عقود من شيوع خطاب الاستقطاب والاحتقان السياسي. فقد وجد استطلاع للرأي أجري مؤخراً أن أغلبية صغيرة فقط تدعم اتفاق "سانت أندروز"؛ كما أن ثلثي المستجوَبين أعربوا عن تشككهم في فرص نجاحه في إعادة الحكم الذاتي إلى الإقليم بانقضاء المهلة التي تنتهي في السادس والعشرين من مارس المقبل. ومن جهة أخرى، فإن أقل من نصف أنصار "الحزب الوحدوي الديمقراطي" فقط يؤيدون الاتفاق، وهو ما يعني أن بيزلي سيواجه أوقاتاً صعبة في إقناع حزبه بالوقوف وراءه. إلى ذلك، لا يخفي البعض خشيته من أن يُكرس اقتسام السلطة الانقسام الطائفي بين البروتستانت والكاثوليك. وفي هذا الإطار، يخشى إيان ويليامسون من "حزب الائتلاف"، وهو الحزب الوحيد في إيرلندا الشمالية الذي ينشط باسم الطائفتين، أن يدافع الزعماء السياسيون عن مصالحهم الطائفية الضيقة وألا يبذلوا الكثير في سبيل دمج طائفتي الإقليم قائلاً: "إننا في حاجة إلى المزيد من المدارس والمساكن المختلطة، وفي حاجة إلى المزيد من المرافق والخدمات المشتركة"، مضيفاً "إننا نريد اقتساماً حقيقياً ودائماً للسلطة، غير أن اتفاق سانت أندروز يمثل تكريساً للفرقة الطائفية. وبالتالي يمكن القول إن السلطة ستُقسم ولن تُقتسم". مارك رايس أوكسلي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مراسل "كريستيان ساينس مونيتور" في لندن ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"