في عام 1789 كان الرئيس الأسبق جورج واشنطن قد ألقى أول خطاب قومي لأعياد الشكر في تاريخ بلادنا. فبعد أن أجزل الشكر والثناء على النعم الكثيرة التي أنعم بها الله على بلادنا الفتية، مضى إلى حث الأميركيين على التضرع والتوسل إليه، عساه يغفر لنا بعض خطايانا وتعدياتنا القومية. وفيما لو كان العمر امتد بجورج واشنطن ليحيا إلى اليوم، ويعيد تكرار ذلك الدعاء مجدداً، لما توانى فريق "المحافظين الجدد" في ضمه إلى قائمة عضوية الشرف بـ"نادي لائمي أميركا الأول". ولكن دعونا نعود إلى عبارة "تعدياتنا" الواردة في خطاب الرئيس جورج واشنطن، وإلى ما يعنيه ضمير المتكلم "نا" الوارد فيه. فمن نكون "نحن"؟! ها... لقد تذكرت، فحتى أميركا نفسها لا تسلم من ارتكاب الأخطاء والتعديات على الآخرين في بعض الأحيان. وللتأكد من هذا، فلننظر إلى غزونا الأخير للعراق، فذلك واحد من تعدياتنا وأخطائنا التاريخية الكبيرة دون شك. أما الخطأ الأكثر فداحة منه فهو "طبخنا" لأسبابه ودوافعه، مضاف إليه خطؤنا الاستخباراتي الأفدح، المتمثل في فشلنا في بلورة خطة متكاملة لإعادة الإعمار في مرحلة ما بعد صدام حسين. وكنت قد زرت العراق عام 2003، يوم أن كان لا يزال ممكناً التفكير في إمكانية فعل شيء إيجابي، على إثر الغزو. فعلى رغم عدم عثورنا على أية أسلحة دمار شامل مزعومة فيه، فإن طاغيته صدام قد هوى من على عرش استبداده، مُفسحاً بذلك المجال للآمال والطموحات من أجل بناء مستقبل أكثر حرية وازدهاراً. ولاحظت خلال زيارتي تلك، رسالة حمراء كتبت بدهان قانٍ كالدم، في جانب من تلك المنصة التي كان يقوم عليها تمثال الرئيس المخلوع، وهو التمثال الذي أطاح به العراقيون بالقليل من مساعدة جنودنا هناك في أبريل من عام 2003. كان محتوى الرسالة: "عودوا إلى دياركم... فقد انتهت المهمة". وكان علينا أن نستبين ذلك النصح ونأخذ به. والحقيقة أنه وحتى في ذلك الوقت، أي بعد مضي خمسة أشهر فحسب على الغزو، كان واضحاً أن نوافذ الأمل قد بدأت تسد في وجه الولايات المتحدة الأميركية. فعندها لم تكن مدة الإمداد الكهربائي لتزيد على الساعتين يومياً في العاصمة بغداد، بينما كانت معدلات الجريمة تتصاعد، وارتفع ترمومتر الغضب الشعبي إلى نحو 130 درجة حرارية. وحينها لم ألتق بعراقي واحد من الذين قابلتهم رجالاً ونساء، إلا ووجه إليَّ السؤال نفسه: كيف تعجز القوة العظمى الوحيدة في العالم كله، عن توفير خدمات الأمن الأساسية للمواطنين، بل كيف لها أن تعجز عن إضاءة لمبة كهربائية في بيوتنا؟ وما أن حانت لحظة إقلاعي في اليوم الأخير من هناك، حتى اعتراني شعور عميق بأنه ما أبعد العراق، عن ذلك الحلم المستقبلي الذي رسمناه له. وإن في وسعنا الانسحاب من العراق وبأسرع ما يمكن. والسبب هو أن وجودنا الحالي يؤجج النيران ويزيد الأوضاع سوءاً. فقد أظهر آخر استطلاع عام للرأي العراقي أجري في الأسبوع الماضي، أن 78 في المئة من العراقيين يرون أن وجودنا العسكري يزيد نيران النزاعات في بلادهم اشتعالاً، بينما دعت نسبة 71 في المئة منهم إلى مغادرة قواتنا لأراضيهم بحلول العام المقبل. بل رأت نسبة 58 في المئة أن المواجهات الطائفية العرقية تزداد سوءاً باستمرار الوجود الأميركي، بينما رأت نسبة 61 في المئة أن انسحابنا سيساعد في تحسن الأوضاع الأمنية بمعدل متوسط لعامة العراقيين! وفيما نذكر فقد كان وزير الخارجية السابق، كولن باول، قد خاطب الرئيس بوش قبيل شن الحرب، محدثاً إياه عن ذلك القانون الفخاري القائل:"العراق جرة... ما أن تكسرها حتى تكون لك". ولكن الذي اتضح في واقع الأمر أن العراق لم يكن إيقونة جمالية على مائدة طعامنا وأننا كسرناه، وها قد فشلنا في ترميمه وإصلاحه. بل إن الشيء الوحيد الذي بقي في وسعنا فعله هناك، هو أن نغادر ونعتذر للعراقيين عما ألحقناه ببلادهم من دمار مريع. وعندها ربما يغفر لنا الرب بعض خطايانا و"تعدياتنا". روزا بروكس ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتبة ومحللة سياسية أميركية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"