كانت إسرائيل قد أعلنت منذ مدة عن تخصيص مبلغ كبير من المال، لتطوير دفاعاتها الجوية، وتعزيز قدراتها الهجومية بالصواريخ والقنابل، واستخدام تكنولوجيا جديدة بعد إخفاقاتها في الحرب على لبنان، وتمهيداً لأي حرب جديدة محتملة، فتكون التقنيات الجديدة المنوي استخدامها قادرة على تحقيق الأهداف المحددة أكثر من غيرها. اليوم تعلن القيادة العسكرية الإسرائيلية أنها بصدد تطوير تكنولوجيا جديدة لاعتراض الصواريخ الفلسطينية. والصواريخ هذه كما هو معلوم بدائية جداً، ومن تصنيع محلي فلسطيني. لكنها بدأت تفعل فعلها كما سبق وأشرنا إلى هذا الاحتمال أكثر من مرة وعلى هذه الصفحة بالذات. نعم، لم يكن لدى الفلسطينيين سلاح، ولم تكن لديهم صواريخ. اليوم بات كل شيء متوفراً. فالإرادة كانت موجودة وباتت أصلب وأقوى. والسلاح بات متوفراً. بدأ بدائياً وهو يتطور. والحصار مفروض لكن التهريب مستمر للسلاح وللمال. والمال يستخدم لشراء أسلحة في الوقت ذاته من الإسرائيليين أنفسهم التجـّار والفجـّار في آن معاً! كان من الطبيعي أن يعزز الصمود اللبناني صمود الفلسطينيين، وأن يستخلص الفلسطينيون دروساً من إخوانهم اللبنانيين وتجربتهم. وقد فعلوا ذلك بالفعل. إسرائيل تجتاح بيت حانون. تحاصر غزة. تشن عمليات وغارات، تقتل المدنيين في مجازر جماعية. وتحاصر الأحياء منهم. ومع ذلك يستمر قصف "سديروت" بالصواريخ ويهرب أهلها. يتدافعون خائفين. وتدب الفوضى ويعمّ الذعر، والقيادة العسكرية الإسرائيلية في موقع الاتهام والإدانة بالتقصير وعدم القدرة على وضع حد لهذه الحالة. حتى وصل الأمر إلى تصوير وزير الدفاع الإسرائيلي في قلب المدينة يهرب من الصواريخ ويدخل إلى ملجأ وكاميرات التلفزيونات تلاحقه! هذا المشهد ليس عابراً، إنما يعبر عن حقيقة أن الحرب لا يمكن أن تحقق أمناً لإسرائيل وسلاماً مع جيرانها. الحرب باتت عبئاً عليها من لبنان إلى فلسطين. مهما ازداد إجرامها وإرهابها وقتلها للناس، فالحرب لم تعد المشروع الأكثر أمناً وضماناً لها. قلنا منذ مدة إن الفلسطينيين سيمتلكون أسلحة بعد حين، تعزز صمودهم وقوتهم وبما هو متاح لديهم الآن من إمكانات. لكن بعد وقت قصير ستكون الإمكانات أكبر والسلاح أكثر تطوراً، وهكذا دواليك سوف يستمر الصراع، ويكون الفلسطينيون أكثر قدرة على التحكم بالمبادرة في عمليات كثيرة. وقد أثبتت التجارب أن التكنولوجيا لم تعد ملك أحد. هي بمتناول الجميع. والجميع قادر على استخدامها. الشعب الفلسطيني من أكثر شعوب الأرض علماً وثقافة وتصميماً وعزماً وصموداً وإرادة وتمسكاً بحقه وبالتالي فهو قادر على استنباط أفكار ومشاريع وخطط واختراع وسائل وأساليب واستخدام تكنولوجيا لمواجهة الإسرائيليين. وبالتالي ليس ثمة مجال إلا الحل السياسي للخروج من نفق الحرب. والحل يتطلب إرادتين. إسرائيلية وفلسطينية. الإسرائيلية غير متوفرة الآن ولم تكن موجودة في السابق إلا عند رابين الذي قتله الإسرائيليون المتطرفون. أنما اليوم فالذين يتحدثون عن حل مع سوريا حول الجولان، هم الأكثر تشدداً ضد الشعب الفلسطيني، وبالتالي ليس ثمة في الفريق الحاكم والجيش من ينظر إلى البعيد ويعترف بالحقائق الحالية وبالمعادلات القائمة وبآفاق ومستقبل هذا الصراع وبالتالي ليس ثمة من يبحث عن حل. وإذا أراد بعض الإسرائيليين فهُمْ غير قادرين على التأثير ولجم التطرف وفرض الفكرة على الأقل. أما من الناحية الفلسطينية، فالإرادة عند البعض غير موجودة لحل أو تسوية، وينطلق هذا البعض من تجارب الاتفاقات مع إسرائيل والتي أسقطتها بنفسها، ومن الإرهاب الإسرائيلي المستمر. ومن يريد الحل أو التسوية في الصف الفلسطيني غير قادر على التأثير أيضاً. وأمام هذا الوضع تبدو الأمور مفتوحة على مزيد من الصراع والفوضى والقتل والدم. بالتأكيد لن تتمكن إسرائيل من تحقيق أهدافها الاستراتيجية لكنها ستهرق المزيد من الدم الفلسطيني وتلحق المزيد من الخسائر وتسبب المزيد من الدمار في ديار الفلسطينيين. وهذا بحد ذاته يرتب مسؤولية على الإخوة الفلسطينيين. فلا يكفي أن تقول إن الصراع طويل. والحقائق التاريخية تؤكد أن إسرائيل لا يمكن أن تنتصر، دون أن نعمل لتوحيد صفوف وتحديد خسائر وضمان نجاح في مراحل أخرى لتحقيق مكاسب وفرض شروط انطلاقاً من هذا القول. وفي هذا السياق تبدو الساحة الفلسطينية مفتوحة على كل آفاق واحتمالات الانقسام والصراع. وأصبح القرار الفلسطيني مجدداً بل أكثر من أي وقت مضى قراراً محكوماً بحسابات وعوامل وعناصر تبدأ من دمشق وتصل إلى طهران وتمر ببعض العواصم لكن التأثير السوري– الإيراني، بل الإيراني تحديداً هو الأكبر في سياق هذه الحسابات. وهذا يعني عدم قدرة الفلسطينيين على التحرك واتخاذ القرار دون النظر إلى هذه الاعتبارات وهذا ينعكس سلباً بالتأكيد على المصلحة الوطنية الفلسطينية، وإنْ كان البعض يعتقد وربما عن حق أن المعادلة الحاضرة ونتائجها في المستقبل لن تكون لمصلحة أميركا وإسرائيل وبالتالي، فإن العلاقة مع إيران مربحة سياسياً وعسكرياً ومالياً. هذا صحيح آنياً لكن لا يعبّر عن حسابات دقيقة لأن الظروف والأوضاع تتغير والمصالح الدولية قد تطيح بكل شيء، فضلاً عن كون الشعب الفلسطيني يدفع ثمناً باهظاً كل يوم. من هذه الزاوية ينبغي العمل على توحيد الصف، والاتفاق على حكومة الوحدة الوطنية، وهذا يتطلب تقديم تنازلات متبادلة ورسم برنامج سياسي موحد حول كل القضايا ولا أعتقد أن ذلك صعب إذا كانت القراءة سليمة ومنطلقة من تغليب المصلحة الوطنية على أي اعتبار آخر. تابعت عن قرب الاتصالات الجارية في هذا الشأن، وهي حتى الآن لا تبشر بالخير. بل المؤشرات تؤكد أن الإسرائيليين مدعومين من الأميركيين سيستمرون في عدوانهم. وآخر عدوان سياسي كان ذلك الموقف المتجدد والمتشدد من المبادرة الأوروبية التي دعت إلى تسوية مقبولة في الأيام الأخيرة. الإسرائيليون أكدوا مجدداً أنهم لا يريدون دوراً أوروبياً ولا يريدون الاستماع إلى لغة سلام وحل. ولذلك سيستغلون الانقسام الفلسطيني وتشدد بعض الفصائل الفلسطينية -هم ليسوا بحاجة لذريعة بطبيعة الحال لكن هذا هو أسلوبهم- وسيستمر القتل وتبدو أوروبا عاجزة وأميركا حامية للإرهاب الإسرائيلي. كما خرجت إسرائيل من بيروت يخرج أبناؤها من "سديروت " اليوم خائفين قلقين مذعورين. وهذا أمر مهم. لكن الأهم كيفية استكمال المعركة وتثمير كل نتيجة تتحقق في أي محطة. هذا يتطلب رؤية مختلفة. وإدارة مختلفة. هنا تقع المسؤولية الفلسطينية.