الكل يعرف أن السبب الرئيسي لفوز الحزب "الديمقراطي" في انتخابات الكونجرس الأخيرة هو معارضته لحرب العراق. ومع ذلك فإن صحيفة "وول ستريت جورنال" قالت مؤخراً إن موقف "الديمقراطيين" المناوئ لحرية التجارة والداعي لـ"الحمائية" كان أيضاً من ضمن أسباب الفوز الذي حققوه في الانتخابات، وإنه هو الذي يمكن أن يقلب كفة الميزان لصالحهم في السجال المتعلق بحرية التجارة. من المعروف أن "الحمائيين" في أي مكان وبصرف النظر عن الحزب الذي ينتمون إليه يمينياً كان أم يسارياً، يؤمنون بأنه عندما يقوم المستهلكون بشراء بضائع وخدمات من دول أجنبية، فإنهم يساهمون في انخفاض معدلات التوظيف وانخفاض مستوى الأجور في الوطن. الاقتصاديون يعارضون هذا الرأي ويقولون إنه خاطئ وإن معارضتهم لذلك ليست حديثة، وإنما ترجع إلى ما قبل "آدم سميث"، وإن الأجانب يبيعون السلع لدولة ما إما لأنهم يريدون أن يشتروا بضائع منها في المقابل، وإما لأنهم يريدون الاستثمار في اقتصادها. وعندما يتعلق الأمر بالولايات المتحدة، فإن هذه الأنشطة التي تتم مع الدول الأجنبية تؤدي إلى زيادة عدد المشروعات التي تقوم بإنتاج السلع المُصدرة إلى تلك الدول، وتؤدي إلى زيادة الحاجة إلى العمالة، وزيادة أجورها. علاوة على ذلك فإن العديد من الأدلة العملية أثبتت أن اتباع النهج الحمائي في التجارة يؤدي إلى آثار مدمرة على الاقتصاد، وأن هذا النهج لا يتفق مع الرغبة في السلام وهي رغبة عبر عنها -ويا للمفارقة- الكثير من "الديمقراطيين" أثناء حملاتهم الانتخابية الأخيرة. وإذا ما رجعنا إلى صفحات التاريخ سنجد أن البارون "دي مونتسكيو" قد أشار عام 1748 إلى "أن السلام هو النتيجة الطبيعية للتجارة"، فالدول التي تتاجر مع بعضها بعضاً تفعل ذلك لأنها تدرك أنها بحاجة للاعتماد على بعضها بعضاً، كأن تستورد منها ما ليس لديها وتصدِّر إليها ما يفيض عن حاجتها، وذلك يحتاج إلى مناخ من السلام. أما مناخ الحرب فإن نتيجته المحتمة هي إيقاف التجارة. وإذا ما كان هذا الطرح صحيحاً فإن "الحمائية" وهي نقيض حرية التجارة، وتعد تراجعاً عنها، تؤدي إلى توفير الظروف التي تقود إلى الحرب أو تزيد فرص نشوبها. وخلال الثلاثين عاماً المنصرمة قام "سلومون بولاتشيك" أستاذ الاقتصاد بجامعة نيويورك في "بنجامتون" بدراسة العلاقة بين التجارة والسلام. وفي آخر ورقة كتبها قام بمراجعة عدد هائل من الأبحاث التي كتبت عن التجارة والحرب والسلام وتوصل من خلالها إلى أن الغالبية العظمى من الأدلة التي توافرت له تثبت أن التجارة تقلل من فرص نشوب النزاعات والصراعات. وأن الأمر نفسه ينطبق على الاستثمارات الأجنبية، بمعنى أنه كلما ازداد حجم الاستثمارات الأميركية مع الدول الأجنبية كلما انخفضت احتمالات الحرب بين أميركا وبين تلك الدول. ويرى "بولاتشيك" في نهاية تلك الورقة: "أن المغزى السياسي للنتيجة التي توصلت إليها من خلال البحث هو أن زيادة التعاون الدولي من خلال إزالة الأسوار التي تحول دون حرية التجارة وتعوق مرور التدفقات المالية والعمالة عبر الحدود تؤدي إلى تعزيز السلام العالمي". وقد توصل البروفيسور "إيريك جارتزكي" أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة كولومبيا إلى نتيجة مشابهة أيضاً، ولكنها أكثر عمومية من سابقتها، وهي أن السلام يتعزز بالحرية الاقتصادية. ومن المؤكد أن الحرية الاقتصادية تعني حرية الأفراد في التعامل، كما تعني معدلات ضريبية منخفضة، وتعني سهولة قيام رجال الأعمال بإنشاء مشروعات الجديدة، وضآلة القيود المفروضة على العمال وعلى الإنتاج وعلى أسواق الائتمان، وسهولة الحصول على الأموال عن طريق القروض المصرفية القانونية. ويقوم "جارتزكي" بتقسيم الدول إلى 10 مستويات متدرجة على سُلم الحرية الاقتصادية أو مؤشر الحرية الاقتصادية، تبدأ من المستوى 1 إلى المستوى 10، فالمستوى 1 خاص بالدول غير الحرة على الإطلاق والمستوى 10 خاص بالدولة التي تتمتع بأقصى قدر من الحرية الاقتصادية. وبعد ذلك فحص البروفسور "جارتزكي" الصراعات العسكرية من عام 1816 وحتى عام 2000 كي يتوصل إلى نتائج تبدو مقنعة إلى حد بعيد: فالدول التي احتلت مرتبة متدنية في مؤشر الحرية الاقتصادية (درجتان فأقل) كانت أكثر قابلية بمقدار 14 مرة للدخول في صراعات عسكرية مقارنة بالدول التي كانت تتمتع بقدر كبير من الحرية الاقتصادية (ثماني درجات أو أكثر). والنتائج التي توصل إليها "بولاتشيك" و"جارتزكي" تمدنا بشيء أكثر أهمية مما سبق من حيث إنها تحسِّن فهمنا لأسباب إحجام الدول الديمقراطية عن شن الحروب على بعضها بعضاً (وهي نتيجة معروفة ومتداولة منذ مدة طويلة). ولكن هذان العالمان يذهبان إلى أبعد من ذلك وهو أن ما يطلق عليه السلام الديمقراطي هو في حقيقته سلام رأسمالي. فمن المعروف أن المؤسسات الديمقراطية تتركز بشكل كثيف في الدول التي توجد فيها سياسات لحماية حقوق الملكية الخاصة، وانفتاح في مجال التجارة الخارجية، وغيرها من السمات الأخرى التي تنسجم مع الرأسمالية. وهما يريان أن هذا هو السبب في ضآلة احتمالات دخول دولة ديمقراطية في حرب ضد دولة ديمقراطية ولكنه يعكس في الحقيقة تأثيرات الرأسمالية أكثر مما يعكس تأثيرات الديمقراطية. وتتفق الدراستان اللتان أجراهما هذان العالمان على أن زيادة الرخاء والحرية الاقتصادية تجعل للناس العاديين مصلحة ونصيبا أكبر في تحقيق السلام. والشيء الذي قد لا يدركه بعض النواب والشيوخ الديمقراطيون الذين يدافعون عن السياسات الحمائية هو أنهم عندما يقومون بالدعوة لتلك السياسات ودعمها فإنهم يضرون -على المدى الطويل- بفرص تحقيق السلام الذي يطالبون به بحماس منقطع النظير. دونالد بوردو كاتب أميركي متخصص في الشؤون الاقتصادية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"