لاحظ الكاتب الإسرائيلي "روني بن إفرات" في مقاله "الحرب الأولى في مرحلة ما بعد الصهيونية": "أن المستوطنين الصهاينة أصبحوا مشغولين بأمور أخرى غير بناء الدولة"، ولذا حذر أنه بعد خمسين سنة إذا استمروا في استهلاك حياتهم بالشكل ذاته، بلا غاية في المستقبل، فقد يبدؤون في التساؤل عمّا إذا ما كان المشروع الصهيوني يستحق كل هذا العناء. والرغبة في تحقيق الذات والبحث عن اللذة الذي يدل على تآكل الأيديولوجية الصهيونية وعلى عدم الاكتراث ببناء الدولة وكل المثل الصهيونية لا يقتصران على الشباب أو على الجماهير أو المهاجرين فحسب، وإنما يشملان أعضاء النخبة أيضاً. خذ على سبيل المثال "نعومي شومير"، أشهر مغنية "قومية" صهيونية إسرائيلية. حينما زارت سيناء بعد احتلال إسرائيل لها عام 1967 قالت بلهجة أيديولوجية صهيونية نهِمة: "هذه هي الأرض التي تمد يدها لتعطي لا لتأخذ". ولكن حين حان الوقت لإخلاء المستوطنات في سيناء، رفض بعض المستوطنين الصهاينة الانصياع لأوامر الدولة الصهيونية وأعلنوا تمسكهم بـ"الأرض" التي استولوا عليها، وغنَّت "نعومي شومر" أغنية تؤيد معارضي الإخلاء وتطالب بالتمسك بالأرض. وقرر المستوطنون إقامة مسيرة احتجاج ضد الانسحاب من سيناء، ودعوا "نعومي شومير" لتغني أغنيتها الحماسية القومية، ففوجئوا بأن وكيل أعمالها يطلب منهم مبلغاً كبيراً لقاء ذلك، أي أنها مدت يدها لتأخذ لا لتعطي. وعلى كلٍّ كانت "نعومي شومير" تعرف أن تمسكهم بالأرض كان ستاراً أيديولوجياً كثيفاً يغطون به رغبتهم الشرهة في الحصول على تعويضات باهظة من الدولة الصهيونية. وقد زحف هذا على الدولة الصهيونية ككل، فيبين "روني بن إفرات" أن الحكومة الإسرائيلية فشلت في رعاية مواطنيها في الشمال (تماماً مثل الولايات المتحدة إبان إعصار كاترينا)، وظهرت عارية مجردة من أية أقنعة أو أردية. ثم يتساءل: "إذا كانت إسرائيل قد تخلت عن فقرائها خلال زمن السلم، فهل نتوقع منها أن تفعل غير ذلك في زمن الحرب؟ الأغنياء في الشمال فروا، الفقراء انتظروا الصواريخ في ملاجئ غير مهيأة. أغلب قوات الإنقاذ تم إرسالها بواسطة المؤسسات الخيرية، التي مولت جزءاً من عمليات الإخلاء إلى فنادق ومخيمات في مناطق أكثر أمناً. ومن كان يظن واهماً أن الدولة تأبه بالضعفاء فقد تبخر وهمه مع أدخنة الكاتيوشا". ويذهب "روني بن إفرات" إلى القول إنه: يمكن تحديد لب هذا السقوط في حادثة محددة: عندما طلب "عمير بيريتس" من يهودا أولمرت وزارة المالية لم يوافق الأخير على ذلك، وبدلاً من ذلك قدم له وزارة الدفاع. لماذا؟ لأن وزارة المالية في إسرائيل 2006 أكثر أهمية من وزارة الدفاع. كل جنرال في الجيش وكل ضابط في "الشين بيت" تقريباً مرتبط بأحد الرأسماليين حيث يتم تعيينه كمدير تنفيذي بعد أن يتخلص الضابط من زيه. لقد كانت صدمة هائلة بين أسر الجنود حين عُرف أنه في 12 يوليو في ساعات مصيرية وقرار قصف بيروت، وجد قائد الجيش "دان حالوتس" وقتاً لبيع استثماراته. ويتحدث "أوري أفنيري" عن علاقة المال بالسلطة فيقول: أرييل شارون وابنه مشتبه فيهما بالحصول على رشوة كبيرة من مقاول ثري. لم يتم تقديم لائحة اتهام ضدهما بفضل المستشار القضائي الجديد فقط، الذي عينته حكومة شارون في أوج هذه الفضيحة. ما زالت هناك تحقيقات جارية بحق شارون وابنه فيما يتعلق بملايين خفية تم التبرع بها بأساليب ملتوية إلى صندوق الانتخابات الخاص به. علاقة شمعون بيريز بالمليارديرات معروفة على الملأ، وكذلك الأمر بالنسبة للأموال الطائلة التي يرسلها مليونيرات من يهود أميركا إلى اليمين المتطرف في إسرائيل. إن الضجة السياسية التي حامت حول وزير البنى التحتية الإسرائيلي قد فتحت بوابة على حقيقة كانت خفية حول وجود شركات دولية ضخمة تعمل في إسرائيل. إنها تحارب من أجل تزويد إسرائيل بالغاز الطبيعي- وهي صفقات بمليارات يتم فيها تجنيد عالم الإجرام، والسياسيين والمحققين المستقلين. لقد وضح الكشف عن هذه القضية لمواطني إسرائيل أن هناك العديد من السياسيين لدينا أيضاً، -يقول "أفنيري"- ومن أعلى الدرجات، تحولوا منذ زمن بعيد إلى عمال سخرة لدى الوصوليين الذين يتمتعون بقوة هائلة. (موقع أوري أفنيري الإلكتروني "الحوار المتمدن" www.rezgar.com 5/8/2004) التوجه نحو اللذة أصاب الدولة بالعفن والانحلال. وكما يقول أوري أفنيري (5/10/2006) في مقاله الذي نشر في موقعه الإلكتروني الذي سبقت الإشارة إليه: لو كان هاملت جندي احتياط في الجيش، لقال: "هنالك شيء عفن في مملكة إسرائيل!". ثم يعدد "أفنيري" تبديات هذا العفن:"رئيس الدولة يرفض التخلي عن منصبه، على الرغم من أن ثماني نساء قد اتهمنه بالملاحقة الجنسية. هو يدعي أن مؤامرة دنيئة قد حيكت ضده ويوجه إصبع الاتهام إلى أتباع نتانياهو في الليكود". "رئيس الحكومة ووزير الدفاع يرفضان الاستقالة، على الرغم من أن الأغلبية الساحقة في الجمهور تبدي عدم ثقتها بإيهود أولمرت (70%) وبعمير بيريتس (82%). وعوضاً عن إقامة لجنة تحقيق رسمية مستقلة وذات صلاحية، ألفا لجنة تحقيق لا تحظى بالثقة من قبل أغلبية الجمهور، حتى قبل شروعها بالتحقيق في أحداث الحرب على لبنان". و"قائد الأركان يتعرض للهجمات من قبل الجنرالات في الماضي والحاضر ولكنه يعلن أنه لن يخلع زيه العسكري حتى يقوم أحد ما بتعريته منه". ويضيف الكاتب: "تم تقديم وزير العدل للمحاكمة بتهمة..." أخلاقية. "رئيس لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست متهم في المحكمة بالغش وبالقسم الكاذب". وماذا عن رئيس الوزراء؟ يقول أمير أورون (هآرتس 30/10/2006) إن هناك ثلاثة ملفات ثقيلة معلقة على رقبة أولمرت: بيع نواة السيطرة على بنك ليئوي، والتعيينات السياسية في سلطة المهن الصغيرة، وعلاقاته مع شريكه المحامي "أوري ماسر" (الملاحق جنائياً). ولننظر الآن إلى ما يقوله "موشيه نجبي" في كتابه "أصبحنا مثل سدوم: في المنزلق من دولة كانون إلى جمهورية موز" (منشورات كيتر، تل أبيب، خريف 2004)، (أوراق إسرائيلية رقم 28- 24 يوليو 2005): "عصابات الإجرام المنظم تزرع العنف في شوارع إسرائيل. وأذرعها تتغلغل في سلطات النظام الحاكم وتهدّد بالمس بـ"الديمقراطية" من الداخل. قتلة، مغتصبون، أزواج عنيفون، وتجار نساء يتجولون بيننا طلقاء بسبب حدْب المحاكم. أماكن لوائح المرشحين للكنيست تباع في وضح النهار عدّاً ونقداً أو بما يوازي النقود، والساسة الذين يشترونها هم الذين يشرعون قوانيننا... مواطنون عاديون يسامون مرّ العذاب في غياهب السجون والمعتقلات دونما ذنب اقترفوه، بينما يواصل مسؤولون كبار، استغلوا مناصبهم لتحسين وضعيتهم ووضعية المقربين، جريهم نحو القمة دون حسيب أو رقيب. القضاء العسكري يمنح حصانة للقادة الذين أهدروا بإهمالهم الإجرامي حياة جنودهم واستغلوا جنسياً جندياتهم، وأيضاً للذين ينكلون بالفلسطينيين". والله أعلم.