أميركا بين الهاجس العرقي والتفاوت الاجتماعي ---------- يطل علينا المثقف الأميركي وأستاذ اللغة الإنجليزية في جامعة إلينوي بشيكاجو، "والتر بين مايكلز"، من خلال كتاب جديد مثير للجدل يسعى فيه إلى تشريح النظام الاجتماعي الأميركي وإلقاء الضوء على ظاهرة إنكار الفوارق الطبقية على حساب تعظيم المساواة العرقية. فالكتاب الذي يحمل عنوان "مشكلة التعددية: كيف تعلمنا التمسك بالهوية وتجاهل اللامساواة"، يبحث في جذور الهوة الاقتصادية المتنامية بين الفئات المجتمعية المختلفة في الولايات المتحدة، فضلاً عن استكناه السبب وراء سكوت المثقف عنها وغيابها عن ساحة النقاش العام في أميركا. ويعود السبب حسب المؤلف إلى عادة أميركية متوارثة تركز على كل ما هو عرقي ومرتبط بالهوية، بينما تنزع إلى إهمال الفروق بين الأغنياء والفقراء. وقد ساهم التاريخ الأميركي المثخن بجراح العنصرية البغيضة في تكريس الوعي الحاد بكل ما هو عرقي وثقافي. والنتيجة هي تحول المجتمع الأميركي، إلى الاحتفاء بالتعددية الثقافية والاختلاف العرقي. فلم يعد هناك فرق بين الأسود والأبيض، أو بين هذا الأخير والأميركي من أصول لاتينية بعدما انصهر الكل في بوتقة الحلم الأميركي. بيد أن الحلم الأميركي الذي قام على تكافؤ الفرص وإتاحة الصعود الاجتماعي، خبا وهجه وتراجع تحت معول الهدم الذي أعملته فكرة التعددية الثقافية. هنا ينبه الكاتب إلى الدور السلبي الذي بات يلعبه التركيز المبالغ فيه على مقولات الهوية والخصوصية الثقافية والاحتفاء بها في المراكز الأكاديمية، على حساب الاهتمام بالفوارق الاقتصادية وما تخلفه من انقسامات حادة، ليس على أساس العرق، أو الجذور الثقافية، بل على أساس الغنى والفقر. إذ المشكلة فيمن يستطيع الالتحاق بالجامعة، ومن لا يستطيع لأن أسرته عاجزة عن دفع الأقساط. وتتجاوز المشكلة مسألة العجز عن دفع الأقساط الجامعية إلى الحصول على الموافقة الجامعية التي تعتمد على معايير أكاديمية لا تتوفر لدى الطلبة المنحدرين من أصول اجتماعية متواضعة. وهكذا يلقي المؤلف الضوء على تجذر الانقسام الطبقي في صلب التركيبة الاجتماعية الأميركية، فالفروق لا تبدأ مع وصول الطالب إلى المرحلة الجامعية، بل تبدأ حتى قبل روضة الأطفال، بحيث تحجز المدارس الجيدة للأغنياء، وتهيئهم لولوج جامعات النخبة، بينما يضطر أبناء الفقراء إلى دخول مدارس لا تحظى بالتمويل الكافي ولا بالمعايير الأكاديمية العالية التي تؤهلهم للجلوس إلى جانب الأغنياء في مقاعد الدرس. ويواصل المؤلف انتقاده للاهتمام الأميركي المبالغ فيه بالعرق والتعددية الثقافية، حيث يقول في هذا الصدد "إننا نحب الحديث عن العرق، والهوية لأننا نكره الحديث عن الطبقة". والأكثر من ذلك أن الالتزام الأميركي بالتعددية الثقافية، ارتبط بالصراع لإنهاء العنصرية في المجتمع، بحيث أصبح الهدف النهائي هو خلق مجتمع متسامح مع باقي الأعراق وخلق نوع من الثراء الثقافي. بيد أن الغنى الثقافي الذي تفتخر به أميركا لا تقابله من جهة أخرى مساواة اقتصادية بعدما اتسعت الهوة بين الفقراء والأغنياء. ويضرب المؤلف مثلاً بما يعرف في أميركا بـ"التمييز الإيجابي" الذي يسمح لأبناء الأقليات بالالتحاق بالجامعة، لأنهم من أصول أفريقية، أو غيرها بهدف تنويع البيئة الأكاديمية في الجامعات الأميركية. لكن المشكلة حسب المؤلف أن هذا التمييز لا يستفيد منه الفقراء بقدر ما يستفيد منه أبناء الأغنياء المنتمين إلى الأقليات العرقية. وهكذا تساهم الفكرة السائدة عن التعددية الثقافية بما تروِّجه من إنكار للعنصرية والشمولية البيولوجية في إدامة ذات الأفكار التي تفخر أميركا بأنها تخلصت منها ورمتها وراء ظهرها. فإذا كان الهدف هو إفراغ مفهوم العرق من حمولته السلبية في الوعي الأميركي وتطبيع العلاقة معه، فإن الحديث عنه بشكل متواصل وإقحامه في السياسات المختلفة أعاده مجدداً إلى الواجهة بعد أن كان الهدف هو نسيانه تماماً. لذا يدعو الكاتب إلى ضرورة نقل الاهتمام في أميركا من العرق والتعددية الثقافية إلى المساواة الاقتصادية في الحياة السياسية الأميركية. ولأن التعددية صارت مطلباً ضرورياً في أميركا يُحتفى بها في الجامعات لم يعد مهماً أن تكون من أصول أفريقية ما دام لون البشرة لا تترتب عنه تداعيات سياسية. لكن عندما ينقل هذا النموذج إلى الحقل الاقتصادي، فإن الأمر يختلف تماماً. فعندما يصبح الفقر قيمة في حد ذاته بمعنى أنه لا يحمل دلالات سلبية لأن الفقراء في نهاية المطاف، حسب المثقفين الليبراليين، ينتمون إلى جنس البشر ولا يوجد ما يفرِّقهم عن الأغنياء، أو ما يعيبهم كفقراء، فإننا نكون بذلك قد جعلنا من اللامساوة الناجمة عن الاختلالات المجتمعية أمراً عادياً. ولعل هذا ما يرفضه الكاتب في الحياة الأميركية التي دفعها التشبع بأفكار ومفاهيم التعددية الثقافية، المطلوبة بلاشك في حد ذاتها، إلى التقليل من شأن الفقر وبالتالي تغييبه عن السياسات العامة. وللتدليل على هذا الوله الأميركي بالعرق واعتماده في تفسير الظواهر الاجتماعية بدل فتح الأعين على الواقع الطبقي المرير، يضرب المثل بإعصار كاترينا وأسلوب التعامل مع تداعياته. فقد ذكر المؤلف كيف احتشد جمع من سكان نيوأورليانز السود الفارين من الفيضانات داخل مجمع رياضي، ووقف أحد مسؤولي المدينة ليخطب فيهم، حيث إن أول ما أشار إليه هو تشبيهه لوضعهم في الملعب، بالعبيد المتكدِّسين في السفن. وبالطبع نسي هذا السياسي أن المشكلة لم تكن في لون بشرتهم، بل في فقرهم الذي جعلهم يسكنون منازل لا تتوفر على وسائل السلامة، كما جعلهم في آخر سلم أولويات المسؤولين السياسيين! زهير الكساب ----------- الكتاب: مشكلة التعددية: كيف تعلمنا التمسك بالهوية وتجاهل اللامساواة المؤلف: والتر بين مايكلز الناشر: ميتروبوليتان بوكس تاريخ النشر: 2006