أوروبا وحدود التسامح في نسخها الإلكترونية والمرئية والمسموعة، نشرت هيئة الإذاعة البريطانية في الثاني من نوفمبر 2004، خبراً عنوانه كالتالي:"مصرع المخرج السينمائي الهولندي فان جوخ على يد مسلح"، ثم أوردت في متن الخبر ما يلي: "قالت مصادر الشرطة الهولندية إن المخرج السينمائي فان جوخ، لقي مصرعه، إثر مهاجمته من قبل مسلح، بسبب إخراجه فيلماً مثيراً للجدل، عن الثقافة الإسلامية. وكان فيلم "الخضوع" الذي أخرجه فان جوخ، قد أعدت قصته بالتعاون مع السياسية الليبرالية المتحررة، أيان حرسي علي، الصومالية الأصل الهولندية الجنسية، والتي تلقت بدورها تهديدات بالقتل إثر بث الفيلم، وأبقيت تحت حماية الشرطة الهولندية. وتدور أحداث الفيلم حول العنف الممارس ضد النساء المسلمات". وفي المنحى ذاته نشرت الخبر شبكة "سي، بي، إس" الإخبارية، مضيفة إليه تصريحات رئيس الوزراء الهولندي جان بيتر بالكنيدي، الذي دعا شعبه إلى الالتزام الهدوء حتى تتكشف دوافع الجريمة وأسبابها، واصفاً مقتل المخرج بأنه لن يكون مقبولاً إن كان مجرد الخلاف في الرأي يؤدي بالإنسان إلى هذا الجرم الوحشي. يذكر أنه كان للحادثة نفسها، صدى واسع النطاق في الصحف والفضائيات والقنوات العربية التي بثت النبأ نقلاً وتعليقاً وإدانة للإرهاب الفكري ومصادرة حق التعبير. فماذا وراء هذه الجريمة؟ وما هي دلالات دوافعها؟ وكيف يمكن تفسيرها في إطار الواقع الهولندي المتعدد الثقافات والأديان؟ منذ وقوع الحادثة وحتى الآن، نشرت تسعة كتب مختلفة تحمل العنوان نفسه: "جريمة قتل في أمستردام"، تناولت الموضوع من زوايا وجوانب مختلفة، إلا أنها لم تغفل جميعاً علاقة الجريمة بالاعتداء الذي طال قيم التسامح الديني والثقافي التي يوصف بها المجتمع الهولندي. على أننا نختار من بينها للعرض هنا، كتاب المؤلف أيان بروما، الذي ركز أكثر من غيره على تضمينات الحادثة وانعكاسها المباشر على قيم التسامح الهولندية. وقد رد المؤلف ما حدث إلى جرثومة التطرف الفكري لدى الأصوليين الإسلاميين، مستمداً الكثير من الصور والإيحاءات التي تركتها في ذهنه صورة القاتل المغربي الأصل محمد البويري، وهو يقف فوق الجثة الهامدة الملقاة أمامه في قارعة الطريق، بينما كان يؤدي حركات بمديته الضخمة التي غرسها في صدر القتيل، كما لو كانت طقساً يعبر عن ثقافة نقيضة مغايرة، هي ثقافة العنف والموت! على أن تلك الحادثة في مجملها، تثير أسئلة مهمة حول مدى النجاح الذي حققته هولندا في دمج المهاجرين وجعلهم جزءاً من التيار العام الغالب للثقافة الهولندية، وما إذا كانت التجربة الهولندية قد نجحت فعلاً في تجسيد تباهيها بكونها دولة للتعدد العرقي والديني والثقافي؟ ورغم الصدمة القوية التي أحدثتها تلك الجريمة في نفوس الهولنديين، إلا أن لدوافعها عناصر وأسباب تتجاوز مجرد "التطرف الديني" الذي وسم القاتل. ذلك أن بها شيئاً من الشعور بالغربة إزاء المجتمع البديل الذي وفد إليه البويري، وعجز عن الاندماج فيه، وتمثّلِ ثقافته الغالبة. بل يذهب المؤلف لإثارة أسئلة عامة عن تحولات الواقع الاجتماعي الأوروبي في ظل تنامي أعداد ونسب الجاليات المسلمة، مصحوباً بخطر تفشي ثقافة العنف والتطرف بين بعض أفرادها. وضمن الأسئلة المثارة هنا؛ ما إذا كانت ردود الأفعال إزاء حادثة اغتيال فان جوخ، وما يشبهها في أنحاء أخرى من القارة الأوروبية، ستسهم في تضييق مساحة التسامح وإثارة النعرات اليمينية المتطرفة المعادية للهجرة، من قبل المواطنين الأصليين في الدول والبلدان المضيفة للمهاجرين؟ وما إذا كانت مثل هذه الأحداث، ستلقي بتأثيراتها البعيدة المدى على سياسات الهجرة التي يتبناها الاتحاد الأوروبي في مجموعه أم لا؟ وبينما حاول المؤلف تقديم إجابات تمهيدية على الأقل، عن جملة ما طرحه من أسئلة، فقد تواترت وتسارعت إجابات أخرى صادرة من عواصم عدد من الدول الأوروبية، لاسيما من باريس ولندن ومدريد، في غضون العامين الماضيين، كان أبطالها الرئيسيون أفراداً ينتمون في معظمهم للجاليات المسلمة المهاجرة إلى أوروبا. أما على الصعيد الداخلي لهولندا، فقد اكتظت صحفها ووسائل إعلامها المختلفة، بمفردات اللغة العنصرية، وبالدعوات للفصل والتقسيم على أساس طبقي اجتماعي، وآخر ديني ثقافي وعرقي... إلى آخره. وبالنتيجة، فإن هناك من يرى أن هولندا قد تحولت عملياً من دولة معادية للفصل العنصري ذات يوم، إلى امتداد جديد لنموذج الفصل العنصري الذي سبق أن ساد جنوب أفريقيا لعدة قرون خلت. على أنه، ومهما كان تباهي الهولنديين بتجربتهم في نشر قيم التسامح والتعدد العرقي فيما مضى، فإنه لا يمكن لها أن تتجاوز سمعة بريطانيا وتجربتها في المجال ذاته. ورغم ذلك، فقد علت في الأخيرة أصوات أصولية متطرفة، صارت تدعو علناً إلى مقولة "نحن في حالة حرب"، في استعارة منها لعبارة الرئيس الأميركي جورج بوش الشهيرة عقب هجمات 11 سبتمبر 2001. غير أن الحرب المقصودة هنا، هي حرب ثقافية عرقية دينية، بين متطرفي الجاليات المهاجرة من جهة، والتيار اليميني المتطرف المعادي للهجرة والمهاجرين من جهة أخرى. فهل أضحت القارة الأوروبية على شفا "صِدام الحضارات" حقاً؟ عبد الجبار عبد الله الكتاب: جريمة قتل في أمستردام: مصرع فان جوخ وحدود التسامح تأليف: إيان بروما الناشر: دار "أتلانتك بوكس" تاريخ النشر: أكتوبر 2006