سلكت اليابان في السابق طريقاً لم تسلكه معها أي من الدول الصناعية المتقدمة من قبل، ألا وهو التناقص المستمر في كثافتها السكانية. غير أن اليابان لن تعد لوحدها اليوم في ذلك التوجه، لأن عدة دول صناعية أخرى بدأت تسير في الاتجاه ذاته مثل روسيا وإيطاليا وكوريا الجنوبية. وتعد الولايات المتحدة الأميركية الاستثناء الوحيد بين الدول الصناعية المتقدمة، ليس بسبب الزيادة الطبيعية في كثافتها السكانية وأعداد المهاجرين الوافدين إليها سنوياً فحسب، وإنما لارتفاع معدلاتها السنوية من المواليد أيضاً. وعلى نقيض ذلك، فقد شهدت اليابان تناقصاً في عدد سكانها، بلغ في العام الماضي وحده 21 ألف نسمة، مما يلفت أنظار العالم بأسره إليها لمتابعة ما يجري هناك. ولما كان ذلك هو حال اليابان، فهل صحيح أن تناقص الكثافة السكانية لابد أن يؤدي إلى انحسار التطور الاقتصادي لذلك البلد، ويدفع به إلى هاوية الفقر لا محالة، أم أن هناك مخرجاً ما من هذه المعضلة؟ يجيبنا عن هذا السؤال، هيتوشي سوزوكي، الباحث بـ"معهد ديوا للبحوث العلمية" بقوله: "اليابان دولة قائدة، ولذلك فإن من واجبها أن تظهِر نجاحها وتفوقها لبقية الدول الأخرى. أما ما يتعلق بالتراجع السكاني الذي شهدته العام الماضي، فهو ليس مما يثير القلق والانزعاج. إن علينا ألا نقلق على ما حدث. ولكن هل تقنعنا هذه الإجابة حقاً؟ ولمَ لا نقلق، إن كان للكثافة السكانية لأمة ما أن تنمو، من أن تنجب كل امرأة راشدة متوسط مواليد قدره 2.1 من الأطفال في حياتها. وما أن تتراجع معدلات المواليد إلى نسبة 1.5 للمرأة الواحدة، وتظل على تلك النسبة، حتى يتعذر التعويض عن هذا النقص، أخذاً في الاعتبار بحقائق علم السكان وبالقوانين التي تحكم النمو السكاني. وتشير قوانين علم السكان إلى أن ما دون نسبة 1.3 من المواليد للمرأة، يعد الأكثر انخفاضاً بين نسب الزيادة السكانية، مع العلم بأن نسبة الصين الحالية من المواليد، وهي 1.7 طفل للمرأة، لا تزال تشهد تناقصاً مستمراً. أما اليابان فقد بلغت نسبة التناقص فيها نحواً من 1.3 طفل للمرأة العام الماضي. وبالنتيجة، فإنه من المتوقع أن يتراجع عدد السكان اليابانيين، والبالغ حوالي 128 مليون نسمة اليوم، إلى 100 مليون نسمة فحسب، بحلول منتصف القرن الحالي. وخلافاً لتقليل الباحث الياباني هيتوشي سوزوكي من هذه المشكلة، على نحو ما ورد ذكره آنفاً، فإن تناقصاً بهذا الحجم المهول في عدد السكان، سيمثل مشكلة كبيرة أمام اليابان في المستقبل. وإن لم يكن عدد السكان مشكلة بالنسبة لها، فكيف لنا أن نفسر فرحها بما حققته من زيادة سكانية ملحوظة، عندما بلغ تعدادها 100 مليون من قبل؟ وشتان ما بين الـ100 مليون نسمة اليوم وفي عام 1965 الذي فرحت فيه اليابان بذلك المعدل. ففي عام 1965 كان هناك 25 مليون طفل، و67 مليوناً من المواطنين القادرين على العمل، و6 ملايين فحسب من الكبار والمسنين. أما بحلول عام 2050، فسوف يكون هناك 11 مليون طفل، و54 مليوناً من المواطنين القادرين على العمل، بينما سيرتفع عدد المسنين الذين تبلغ أعمارهم 65 عاماً فما فوق، إلى 36 مليون نسمة. ولذلك فلا أحد يدري الآن، ما إذا كان في وسع مجتمع بتركيبة سكانية كهذه، أن يحافظ على قدرته على الإبداع والابتكار، وما إذا كان مستثمروه ورأسماليوه سيتمكنون من التكيف مع سوق تتقلص باطراد؟ ومن بين الذي نتوقعه، تزايد عدد الذين يعتمدون في إعالتهم على كل فرد من الأفراد العاملين وقتئذ. وفي مواجهة وضع ديموغرافي كهذا، فإنه لن يكون أمام اليابان سوى أحد خيارين: إما التكيف مع واقع الانكماش السكاني، وتحمل تبعاته وعواقبه الاجتماعية الاقتصادية الوخيمة، أو أن تختار طريق الصراع ضده، بمحاولة زيادة معدل مواليدها السنوي. وفيما يتعلق بالخيار الثاني، فقد واصلت الحكومة اليابانية مساعيها الرامية إلى زيادة عدد المواليد منذ عام 1990، ولكن دون أن تفضي تلك المحاولات إلى نتائج مثمرة ملموسة. بل إن هناك الكثير من الإشارات والأدلة على عدم جدية الحكومة على تغيير هذا الواقع، وبذل المزيد من الجهود المخلصة والهادفة إلى زيادة معدلات المواليد فعلياً. وقد كشفت استطلاعات لرأي النساء اليابانيات أجريت مؤخراً، عن أن الكثيرات منهن يرغبن في ولادة طفل ثان، إلا أنهن يؤجلن هذه الرغبة أو يمتنعن عن تحقيقها، بسبب عدم مساعدة الأزواج لهن في الأعمال المنزلية، بما فيها تربية وتنشئة الأطفال. إذن فالحكومة اليابانية تتحدث على المستوى النظري لا أكثر، عن التزامها وحماسها لرفع معدلات المواليد، أما في الواقع، فهي مشدودة إلى قناعات وفلسفة نائب رئيس وزرائها هاكوبون شيمورا، الذي أجاب عندما تصاعدت عليه الضغوط والأسئلة بخصوص طول قوائم انتظار الأسر لإلحاق أطفالها بحضانات الأطفال، بقوله: إن في الإمكان حل هذه المشكلة بأسرع ما يمكن، فيما لو لزمت النساء بيوتهن، وتفرغن لتربية أطفالهن! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فريد حياة كاتب ومحلل سياسي أميركي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"