يأمل أنصار الواقعية المتشددة في السياسة الخارجية الأميركية (الذين يرفضون التدخل الأميركي في أي مكان من العالم)، بأن إخفاقنا في العراق يشكل فرصة لإعادة صياغة تلك السياسة حسب رؤيتهم. ويعني ذلك أنه ستتم إعادة تعريف السياسة الخارجية الأميركية على أساس الحذر الشديد مرفقاً بحسابات تكاد تكون رياضية حول تطبيق مبادئ ميزان القوى. وقد تحسب أننا على وشك تقليد الصين التي كل همها هو تأمين موارد الطاقة وإبرام اتفاقات تجارية مفيدة دون أدنى اهتمام للاعتبارات الأخلاقية والأداء الديمقراطي للأنظمة في بلدان مثل زيمبابوي وبورما. لكن ذلك كله هراء ولا أستطيع طمأنة الواقعيين بأن أملهم سيتحقق في المستقبل المنظور. فلئن كانت السياسة الخارجية الأميركية ستعرف تعديلاً في اتجاهها على ضوء النتائج غير المرضية في العراق، فإن ذلك لا يعني أبداً أن السياسة الخارجية ستنقلب رأساً على عقب كما يتمنى الواقعيون. فلن يجرؤ أي من الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة على اقتراح تغيير جوهري في السياسة الخارجية الأميركية إذا كانا يرغبان لمرشحيهما في الظفر بالانتخابات الرئاسية لعام 2008. ويكفي النظر إلى خيبة أمل هذا البلد إزاء عجزنا الذريع في التدخل لحل أزمة دارفور للتأكد من استحالة الانكفاء على الذات كما يدعو إلى ذلك الواقعيون. وبالطبع ستؤثر النتائج المستخلصة من التجربة العراقية، لاسيما فيما يتعلق بصعوبة تصدير نظامنا الديمقراطي بالقوة إلى الخارج على قناعتنا في الإصرار على تطبيق المبادئ "الويلسونية" التي نؤمن بها. لكن الواقعية الخالصة من دون تطعيمها بمسحة من التفاؤل، أو المثالية ستحد من قدرة الديمقراطية الأميركية على الهجرة إلى الخارج وإحداث التغيير. أما التعثر في العراق فعلينا أن ننظر إليه كفصل من فصول ما بعد الحرب الباردة الذي أسدلت عليه الستارة في السياسة الخارجية الأميركية، وهو الفصل الذي بدأ مع الحرب العراقية- الإيرانية ومع الحرب البوسنية. وبالرجوع إلى 1989 عقب انهيار الاتحاد السوفييتي كان المثقفون وقتها يحتفون بالمثالية في السياسة الخارجية بما تعنيه من تصدير للديمقراطية والتدخل الإنساني تماماً كما هو عليه الحال اليوم بالنسبة للواقعية التي أصبحت حديث الساعة وبؤرة الاهتمام. فقبل عشر سنوات كانت دول مثل ليبيريا وسيراليون بالإضافة إلى غيرها من البلدان الأقل تطوراً من الناحية المؤسسية مقارنة بالعراق موضوعة على قائمة الدول المرشحة للتغيير الليبرالي. وكان السياسيون وقتها من أمثال برينت سكوكروفت وجيمس بيكر محط انتقاد شديد ليس فقط من قبل "المحافظين الجدد"، بل أيضاً من قبل الليبراليين ذوي التوجه العالمي. وفي تلك السنوات الأولى التي أعقبت فترة الحرب الباردة كانت عبارة "الواقعية" سُبة يتفادها الجميع. وبسبب الفوائد الاستراتيجية لمنطقة البلقان فإن التدخل بدا مبرراً إلى حد ما وسوغ المقاربة المثالية التي ميزت السياسة الخارجية الأميركية في تلك الفترة. وهكذا أدى التدخل الأميركي في البوسنة عام 1995 إلى تغيير النقاش من السؤال: هل يتعين استمرار حلف شمال الأطلسي على قيد الحياة؟ ليصبح السؤال: هل يتعين توسيعه؟ وقد ساهمت حرب كوسوفو سنة 1999، ثم من بعدها أحداث 11 سبتمبر 2001، إلى التسريع في توسيع حلف "الناتو" إلى حدود البحر الأسود على مشارف روسيا. ولا ننسى أيضاً أن التدخل الأميركي أسقط رجل يوغسلافيا القوي سلوبودان ميلوسوفيتش دون أن تعم الفوضى في أنحاء البلاد. وبالنسبة لـ"المحافظين الجدد" وغيرهم من الذين أيدوا تدخلنا في البوسنة وكوسوفو فقد حملوا معهم الروح ذاتها ودفعوا بها إلى أقصى حدودها في العراق. وهكذا فإن ما بدأناه في 1995 كحملة جوية وزحف بري محدودين للغاية في الجزء الغربي الأكثر تقدماً من الإمبراطورية العثمانية السابقة انتهى بغزو واسع قام به الجيش الأميركي بعد ثماني سنوات للجزء الشرقي الأقل تقدماً من نفس الإمبراطورية. ولم يكن التدخل الثاني أكثر طموحاً من الأول فحسب، بل كان أيضاً أقل اكتمالاً في مرحلة الاحتلال، وهو ما حكم عليه بالفشل. والدرس المستخلص من التجربة العراقية ليس الامتناع عن التدخل العسكري في المستقبل، ذلك أننا سنواصل التدخل العسكري، بل كل ما هنالك هو أننا سنتوخى المزيد من الحذر، كما لن يحدث ذلك إلا ضمن تحالف حقيقي. وهنا يبرز دور حلف شمال الأطلسي كقوة عسكرية تنهض بمهمات في العديد من مناطق العالم بدءاً من السنغال المطلة على المحيط الأطلسي وحتى جيبوتي على خليج عدن مروراً بمنطقة الصحراء الكبرى. ولا تقتصر تلك المهمات على تدريب القوات المحلية وتزويدها بالمعدات الأساسية لتعقب الإرهابيين، بل أيضاً لتحديث جيوش الديمقراطيات الوليدة وتطوير قوة تدخل أفريقية تستند إلى المشورة الأميركية ومساعدتها على معالجة الأزمات الطارئة مثل حالة دارفور. ومهما كان الأمر مهيناً بالنسبة لسحب قواتنا من العراق، أو تخفيضها فإن ذلك سيساهم في تخفيف العبء الذي تنوء تحته القوات والمعدات لتتفرغ للإشراف على الوحدات الصغيرة والفعالة التي سيتم تشكيلها بتنسيق مع حلف شمال الأطلسي وتناط بها مهمات محددة. وإذا كان فشلنا في العراق عزز التصور الواقعي للأمور وأعطاه زخماً جديداً بما أثبته من أن الموروث الجغرافي والتاريخي والثقافي قد لا يساعد على إنجاز المهام بالسهولة المتخيلة، إلا أن تجربة البلقان تثبت أيضاً أن تصور المثاليين كان أيضاً صحيحاً. وبدلاً من شطب التدخل العسكري من السياسة الخارجية الأميركية، يتعين علينا معرفة حدود الممكن والعمل في إطاره. وإذا كان العقد الحالي قد شهد تجاوز المثاليين للحدود وذهابهم بعيداً في طموحهم، فإن العقد الذي سبقه شهد اقتناع الواقعيين بما هو غير كافٍ. ــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست ولوس أنجلوس تايمز"